خالد الدخيل- الحياة السعودية-
عادت الأسبوع الماضي قضية كفاءة النسب مرة أخرى، والغريب أن بوابة القضاء هي البوابة الوحيدة التي تعاود من خلالها هذه القضية فرض نفسها على الجميع، إذ أصدر قاضٍ في محكمة بلدة العيينة الابتدائية حكماً بوضع حد لعلاقة زوجية بين فتاة حامل وزوجها الشاب المرابط على الجبهة الجنوبية، بناءً على دعوى عدم «كفاءة النسب». ينطوي هذا الحكم على إشكالات وتناقضات قانونية، وتعدٍ على الحقوق، وتصادم مع نصوص شرعية يدّعي الحكم أنه يستند إليها، فالحكم صدر أولاً بهدم عائلة ضد رغبة الزوجة والزوج. وفي هذا تعدٍ على حقوق وامتيازات الطرفين الرئيسين للعلاقة الزوجية، وهما عماد الأسرة التي كان يفترض أن تنشأ العائلة في ظله، ثانياً أن الحكم صدر بناءً على دعوى فسخ عقد الزواج على أساس «عدم كفاءة النسب» بين الزوجين مقدمة من أعمام الزوجة، وفي هذا مصادرة، مرة أخرى، لحق الزوج والزوجة المطلق في تقرير مصير علاقتهما طالما أنها ضمن إطار الأنظمة والقوانين، وإعطاء هذا الحق بطريقة تعسفية لأعمام الزوجة. هل يمكن أن يكون هناك مبرر لهذا التعدي السافر على حق العائلة في تقرير مصيرها لصالح جماعة تتمثل في العشيرة أو القبيلة؟ ثم ماذا عن حق الجنين الذي تقرر مصيره قبل أن يولد، وبحكم قضائي متعسف يرفضه والديه؟
الأسوأ أن حكم الفسخ استند إلى عرف اجتماعي ينطوي على حس عنصري قديم يفرق بين الناس على أساس من صفاء مزعوم للنسب، وكان يفترض أنه قد تم تجاوز هذا العرف منذ زمن بعيد، خصوصاً من مؤسسة القضاء المؤتمنة على تطبيق القوانين والأنظمة، وحماية حقوق الناس، وحفظ مبدأ العدل والمساواة بينهم، بدلاً من ذلك يصر القضاء على تمسكه بقضية «كفاءة النسب» على التصادم مع منطق الدولة، وقبل ذلك مع منطق الشريعة الذي يصدر عنه، موقف القضاء باعتباره أحد سلطات الدولة يفرض سؤالاً جوهرياً عن معنى الشعب، والوطن، والدولة الوطنية كمنطلق وإطار لهذه السلطة، لماذا؟ لأن تمسك القضاء بمبدأ «كفاءة النسب» يفضي عملياً إلى إلغاء مفاهيم «الشعب» و«الوطن» و«المواطنة»، و«الدولة الوطنية» لصالح قيم ومعايير بنية اجتماعية سياسية سابقة لقيام الدولة، اسمها القبيلة، ومن ثم الاستناد إلى إطار اجتماعي وسياسي مخالف للإطار الذي ينتمي إليه هذا القضاء، هذا فضلاً عن أن بنية القبيلة في حال تصدع مستمرة، وفقدت مرجعيتها القانونية والسياسية التي كانت تتمتع بها قبل قيام الدولة، بل إن تمسك مؤسسة القضاء بالمبدأ الفقهي لـ«كفاءة النسب» يجعل منها أداة لهذه البنية القديمة في مقاومة منطق الدولة وسلطاتها التي تستند إلى القانون، والمواطنة، والعدالة والمساواة بين المواطنين.
والغريب في موقف القضاء هنا أنه يصدر عن التزام بعرف اجتماعي، وليس بنصوص شرعية، ولا أزال أتذكر ما دار بين الشيخ عبدالله المطلق عضو هيئة كبار العلماء، وبيني على فضائية «الإخبارية» قبل سنوات حول هذا الموضوع تحديداً، كنت أجادل بأن «كفاءة النسب» تعود لحرية اختيار الناس، وبالتالي يجب التعامل معها على هذا الأساس، وأن القضاء بناءً على ذلك يجب أن ينأى بنفسه عن هذا الموضوع تماماً لأنه لا شأن له به، وحتى لا يبدو أنه يشرعن للعنصرية الثاوية خلف هذا المبدأ، أو أنه يصطف في هذه القضية إلى جانب ضد آخر، لكن الشيخ أصر على أن حكم القضاء في هذا الموضوع يستند إلى عرف، والعرف يمكن أن يكون مصدراً للتشريع، كما قال، ومع أنني لست متخصصاً في الشريعة، إلا أنه وسعني تذكير الشيخ المطلق حينها بأنه لم يأخذ في الاعتبار أن هناك شروطاً لا بد من استيفائها حتى يمكن للعرف أن يكون مصدراً للتشريع، منها أن لا يكون عرفاً فاسداً، و«كفاءة النسب» كرأي فقهي يستند إلى عرف فاسد يفرق بين الناس على أساس قبلي ينطوي على أبعاد عنصرية، ومنها أيضاً أن لا يتعارض العرف مع نص من الكتاب والسنة، وكفاءة النسب من حيث إنها تستند إلى تراتبية قبلية تتعارض مع نص الآية التي تقول: «إنَّ أكرمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم»، إذ التقوى هي معيار التراتبية بين الناس، وليس أي شيء آخر، ثم يأتي حديث: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه.. إلخ»، ليتكامل مع منطوق الآية، وهناك أحاديث أخرى يستند إليها من يتمسك بمبدأ «كفاءة النسب»، لكنها أحاديث إما ضعيفة أو مكذوبة، وبالتالي لا يعتد بها.
عندما نأتي إلى إطار الدولة التي ينتمي إليها القضاء السعودي، نجد أن موقف المحاكم من هذا الموضوع يتصادم مع نصوص وروح النظام الأساسي للحكم، وهو بمثابة دستور المملكة بمرجعيته الأعلى متمثلة بالكتاب والسنة، فمن المفاهيم التأسيسية في هذا النظام مفاهيم «الشريعة والوطن والمواطنة والعائلة»، لا يرد فيه أي ذكر للقبيلة، أو التمايزات القبلية، على العكس، يمكن القول بأن في هذا النظام تزاوج بين الشريعة والوطن والمواطنة، وأن كيان العائلة واستقراره يستند في أساسه إلى هذا التزاوج، في المقابل نجد أن أحكام القضاء على أساس من «كفاءة النسب» ترسّخ حاجزاً متيناً بين الشريعة من ناحية، والوطن والمواطنة من ناحية أخرى، وهذا الحاجز يعكس شيئاً من عدم الانسجام بين القضاء ومؤسسة الدولة بمفاهيمها الحديثة، السؤال هنا: ما رأي السلطة التشريعية للدولة في ما تفعله السلطة القضائية من تشريع في هذه المسألة يتعارض مع الأسس الشرعية والدستورية للدولة؟ هل هناك افتئات من السلطة القضائية على صلاحيات السلطة التشريعية؟ أترك الإجابة للمختصين.
طبعاً لا يفوتني هنا التنويه بالبيان الذي أصدرته وزارة العدل ظهر أمس حول الموضوع، ومما جاء فيه قرار مجلس القضاء الأعلى بتاريخ ١/٨/١٤٢٨هـ، ونصّه: (الأصل إنما هو الكفاءة في الدين، وذلك في الدماء وغيرها، لعموم الأدلة من القرآن والسنة، وحديث: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه..» هو الأصل... أما الامتناع ابتداءً عن تزويج من لا يُرضى لنسب ونحوه، فهذا داخل في خيار الناس، وأما إبطال عقود شرعية صادرة عن رضا المرأة، وولي أمرها، بمثل دعوى أخ ونحوه رغم رضا المرأة وأبيها، فأمر غير صالح). وهذا قرار صائب تماماً، وإن كانت تنقصه تفاصيل أخرى، وأهم ما جاء في القرار تأكيده على أن الامتناع «عن تزويج من لا يرضى نسبه ونحوه، فهذا داخل في خيار الناس...». لكن يلاحظ أن البيان لم يبنِ على الشيء مقتضاه بشكل مباشر، وهو أن القضاء بناء على ذلك لا شأن له في هذا الموضوع، وتأكيد البيان بأن «إبطال عقود شرعية صادرة عن رضا المرأة، وولي أمرها... إلخ»، يفهم منه عدم صلاحية الأحكام السابقة التي حكمت بفسخ الزواج بمثل هذه المعطيات، هل هذا الفهم صحيح؟
ثانياً إذا كانت «كفاءة الدين» هي الأصل، وأن «كفاءة النسب» متروكة لخيار الناس، كما جاء في البيان، فلماذا تقبل المحاكم دعاوى فسخ النكاح على أساس من «كفاءة النسب»؟ سيقال بأن عدم السماح برفع دعاوى فسخ قران على هذا الأساس، يتعارض مع حق التقاضي المكفول للجميع، والسؤال في هذه الحال: هل حق التقاضي هذا مفتوح من دون قيود؟ هل يجوز مثلاً رفع دعوى تطالب بتحليل السرقة، أو الاغتصاب؟ من الواضح أن أساس مثل هذه الدعوى فاسد، ولا يجوز قبولها، ماذا عن «كفاءة النسب» وأساسها فاسد أيضاً؟ والأنكى في دعاوى «كفاءة النسب» هذه أنها ترفع غالباً ضد رغبة ومصلحة الزوجين، وتلبية لرغبة أو مصلحة طرف ثالث بما يترتب عليه من مصادرة لحقوق الزوجين، وهدم لعلاقتهما الزوجية رغماً عنهما، وعن الأسس الشرعية التي قامت عليها.
ما كان هذا ليحدث لولا تبني المحاكم لمبدأ «كفاءة النسب»، وقبول القضاء لدعاوى على هذا الأساس، وإذا كان أمر «كفاءة النسب» يعود لخيارات الناس كما يقول بيان الوزارة، فيجب الالتزام بمقتضيات ذلك، وأولها أن ينأى القضاء بنفسه عن هذا الموضوع، وأن يرفض تلقي دعاوى تستند إليه، من دون ذلك ستبقى إشكالية علاقة القضاء بالدولة، والمواطنة بالقبيلة، وانتهاك حقوق الآخرين بدعاوى لا أساس لها، وهذه أمور من مصلحة الجميع حسمها لصالح الدولة والمواطنة والمساواة، وعدم تركها تتفاعل بآثارها وتداعياتها في الداخل والخارج.