محمد بن سعود الجذلاني- الرياض السعودية-
بعث لي صديقٌ مقطع فيديو لتنفيذ أحكام شرعية بالقتل في محافظة جدة، وكان الذي صوّر المشهد مجموعة من السيّاح الأجانب الذين أخذهم مرشدهم السياحي ليشهدوا هذا المشهد العظيم، ويظهر في المشهد مدى تأثر هؤلاء السياح بالمنظر المؤلم لثلاثة محكوم عليهم بالقتل، ابتدرهم السيّاف بقطع رؤوسهم واحدا تلو الآخر، والسياح الأجانب يصرخون ويبكون.
وقبل الختام أشير إلى مسألة أخرى ذات صلة، وهي مدى فاعلية ومشروعية تنفيذ أحكام القتل على مرأى الناس وفي حضور الجماهير، في حين أن الله عز وجل لم يذكر حكم شهود تنفيذ الحدّ إلا في حدّ الزنا فقط، بقوله تعالى«وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين..»
ولا أدري ما الذي قصده هذا المرشد السياحي بذهابه بهؤلاء الأجانب لحضور هذا المشهد الذي لا أظنه أبدا سيكون عندهم ذكرى طيبة عن المملكة، ولا وسيلة مثلى لنقل صورة الإسلام الحقيقية وروح الشريعة الإسلامية إليهم.
لقد أثار هذا المشهد في نفسي العديد من الشجون والخواطر، مستعرضا ما يجري في العالم اليوم من حملة تشويه وعداء للإسلام والمسلمين في العالم، إما على يد الأعداء قصدا، أو على يد بعض المنتسبين للإسلام جهلا.
وجال في خاطري مدى عظمة هذا الدين وسمو مقاصده، والكثير من أحكامه الممتلئة حكمة وهداية وهدى لاسيما في ميدان التعامل مع غير المسلمين، ووسائل دعوتهم إلى الإسلام، وما شرعه الله في هذا الباب من أحكام ارتبط بعضها ببداية الإسلام وقبل قيام دولته، وتقرر بعضها في عهد عزة الإسلام وفي ظل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.
ثم تفكرت في أحوالنا اليوم وما يشهده العالم من انقلاب وتحول ضخم في الثقافات البشرية، والظروف الواقعية، وكيف أنه يجب على المسلمين أن يكونوا في قيامهم بشعائر دينهم، ودعوتهم غيرهم إليه، مستوعبين لهذه التحولات، متصورين حقيقتها، قادرين على التعامل معها بما يلائمها من أساليب ووسائل، ما أذِن الله لهم فيه من اجتهادات، وأرساه في كتابه العظيم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من قواعد وأسس وثوابت، تكون أحرى بقبول العالم لدعوتهم، ومحبة الناس لدينهم، ومخاطبة كل قوم بما يحسنون وتطيقه عقولهم، وصولا إلى تحقيق الغاية الأسمى والهدف الأعظم وهو هداية الخلق إلى الإسلام، فإن لم يكن فعلى أقل تقدير كفّ الأذى عن المسلمين وعدم الإسهام بغير قصد في تشويه صورة الدين وإعطاء الذرائع لأعدائه لحربه وانتقاص أحكامه.
هذا الدين العظيم الذي أمر الله رسوله في أول الرسالة أن يبلغه سرا للأقربين، فكان عليه السلام يدعو الأقرب فالأقرب من عشيرته، ويلتقي بمن آمن به سرا في مكة لتعليمهم أمور دينهم، إلى أن أذن الله له بالدعوة جهرا مع احتمال الأذى والصبر على العذاب، ثم شرع له الهجرة إلى المدينة وما تلاها من الإذن بالجهاد، وبعد البدء في الجهاد جاء صلح الحديبية الذي كان في ظاهره يحمل شروطا غير عادلة في حق المسلمين حتى قال عنها الفاروق عمر رضي الله عنه "لِم نعطي الدنية في ديننا!" إلا أن الله عز وجل وصف هذا الصلح بالفتح المبين فقال: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا.. الآية".
كل هذا التدرج والطريق الطويل من الصبر والتضحيات رغم أن الله عز وجل قادرٌ على نصر عبده محمد، ونشر دينه وإعلاء رسالته دون كل هذا العناء؛ إلا أن ذلك كان تشريعا إلهيا عظيما لا يمكن النظر إليه باعتباره جزءا من الماضي الذي لم يعد لنا حاجة إلى استحضاره وتطبيقه في عصرنا الحاضر؛ بل هو تشريع محكم قائم ينبغي استلهام معانيه وتفيؤ ظلاله والعمل به كلما دعا الداعي إلى ذلك.
إن سيرة الرسول الأعظم عليه السلام كلها حكمة وهداية وحرص دؤوب على نشر هذا الدين، وحماية جنابه من أي دعاية سيئة يمكن أن يلصقها به الأعداء فتصدّ الناس عن الدخول فيه.
ولا يتسع المقام هنا لتتبع وحصر الشواهد والأمثلة على هذا المبدأ الراسخ الذي التزمه حبيبنا صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام وسياسة أمور الدولة الإسلامية.
فهو الذي كان ينزل عليه الوحي بأسماء المنافقين ويعلمهم فردا فردا، ويعاني منهم الشقاق والنفاق والتمرد في كل مناسبة، إلا أنه مع ذلك يأبى قتلهم (حتى لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه) فيكون في ذلك تنفيرا عن الإسلام.
وهو عليه السلام الذي ترك بناء الكعبة على أساسها الذي كانت عليه في عهد إبراهيم عليه السلام وآثر تركها على بناء قريش لها، كل ذلك خشية أن يحدث في نفوسهم استنكارا كونهم حديثي عهد بالإسلام.
كل هذه المقدمة التي استطردت فيها لا أظنني بحاجة لها لمناقشة مسألة غاية ما تكون أنها (اجتهادٌ فقهي سائغ) وهي الحديث عن إمكانية استبدال السيف بغيره من وسائل القتل، لتنفيذ الأحكام الشرعية القضائية الصادرة بالقتل إما قصاصا أو حدا أو تعزيرا؛ إلا أني رأيت الحاجة ماسة لربط هذا الطرح الفقهي بالمقدمة السابقة، حتى يستحضر القارئ الباحث عن الحق في هذه المسألة تلك القضايا الإسلامية الكبرى التي تندرج تحت مظلة مقاصد الشريعة وقواعدها، وتتماشى مع روح التشريع وغاياته، التي من أسماها غاية الدعوة إلى الإسلام وتحسين صورته، وسد الذريعة دون تشويهه والنيل من أحكامه الربانية.
إن مسألة استبدال السيف بغيره من الوسائل الحديثة للقتل، وإن كانت تدور في فلك الخلاف الفقهي الاجتهادي، إلا أني أعتقد أننا لن نحسمها ونتصورها على حقيقتها دون استحضار المعاني السابقة، لنصل إلى حكم فقهي يجمع بين الالتزام بما شرعه الله من أحكام الحدود والقصاص الشرعية، وبين تحقيق مقاصد الشرع في سلوك كل طريق يقرّب الناس إلى دين الإسلام وينقل لهم صورته الحقيقية الناصعة.
وإن كل باحث في مسألة استخدام السيف وسيلة لتنفيذ أحكام القتل، سيجد خلافا بين الفقهاء رحمهم الله في ذلك، وأقوالهم في شروح النص النبوي الذي جاء فيه الأمر بالسيف في القصاص والحدود، وأن ذلك كان بسبب كون السيف هو الوسيلة الأكثر نجاعة في ذلك العصر، وهو الأسرع في إزهاق الروح حتى لا يتعذب الإنسان، وذلك على قاعدة الحديث الصحيح: "إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". فلو أنه وجِد شيء آخر من الوسائل أكثر راحة وأسرع في إزهاق الروح دون تعذيب ولا بشاعة فمن الصعب القول إن الشرع ينهى عنه ويلتزم بالقتل بالسيف مع وجود ما هو أفضل منه في تحقيق مقاصد الشرع، ورعاية تكريم الله للإنسان حتى وهو يخضع لتنفيذ حدود الله وأحكامه بالقتل.
وفي ظل ما نشهده اليوم من بشاعة مناظر حزّ الرؤوس على أيدي الفئات الضالة الخارجة عن الإسلام، وكيف أن هذه المشاهد يتم إلصاقها بغيا وعدوانا بالإسلام وهو منها براء، ومدى تأثير تداول هذه المشاهد على مرأى العالم وسمعه، في التنفير من الإسلام وأهله، أقول في ظل هذه الأحداث وما يعيشه العالم من تحولات فكرية وثقافية، كم نحن بأمس الحاجة إلى مراجعة هذا الحكم الشرعي والبحث عن مدى ملاءمته وقربه أو بعده عما قامت عليه شريعتنا من مبادئ ومقاصد عظيمة.
بينما في سائر الحدود والأحكام لم يرد ذلك. وهي مسألة أخرى أدعو لمراجعتها، كل ذلك بما يحقق المقاصد الشرعية، ويتوافق مع الأحكام القطعية. والحمد لله أولا وآخرا.
*محام وقاض سابق في ديوان المظالم