بعض الحقوقيين ووسائل الإعلام الغربية يزورون سجن الحائر في الرياض لا للبحث عن إجابات، وإنما عن أدلة لأفكار مقررة سلفاً لديهم لا تتعدى ثلاثة أمور: ارتباط الوهابية بالإرهاب، وفتاوى التكفير، وانتهاكات حقوق الإنسان، أما ما يشاهدونه من حقائق ووقائع فلا يلتفتون إليه. وخلال زيارتنا للحاير، قابلنا عدداً ممن أردنا أن نقابل بالاسم، وبعضهم رفض المقابلة، وقابلنا سواهم مصادفة ممن كانوا في هذا الموقع أو ذاك ويمكن تصنيفهم إلى فئات ثلاثة:
01 أشداء عتاة
الفئة الأولى من الأشداء العتاة: وهم الذين ما زالوا على فكرهم التكفيري رافضين الحوار والنقاش أو حتى التعامل مع أحد مثل (س1) الذي يرفض المناصحة أو لقاء أي أحد، و(س 2) الذي يرفض الكلام وبقي صامتاً رغم سنينه الطويلة في السجن، و(س 3) الذي لا يرد السلام لأن الجميع كفار في نظره، وإذا أراد أن يحيي أحداً قال: صباح الخير، من باب خاطب الكفار بخطابهم، ويرفض أن يلقي على أحد تحية الإسلام أو يبادره بالسلام، و(س 4) ما زال رغم سنوات سجنه الطويلة مستمراً في القصر والجمع في صلاته بحجة أنه ما زال في دار حرب.
02 مترددون بين الإرهاب الأصم وقابلية الحوار
الفئة الثانية هي المترددة بين الإرهاب الأصم وقابلية الحوار: يصرون على رأيهم فإذا جوبهوا برأي مُفحم سكتوا وطلبوا فرصة للتفكير، وجرى حوار بين الشيخ (ص 1) والموقوف (س5) الذي كان يكفر الدولة السعودية وقياداتها وكل العاملين في الحكومة، ولكنه يرى في حماس دولة إسلامية، فقال له الشيخ: دستور حماس 34 بنداً ليس فيه شريعة إلا حماية القانون الوضعي فاعتذر لها بأن حماساً دولة ضعيفة وتعذر بضعفها، فرد عليه بنسبية الضعف وأدلة أخرى فطلب مهلة للتفكير، أما (س 6) فقد طلب المشايخ الجلوس معه ومحاورته 11 مرة، وكان يرفض ثم استخار بعد ذلك وجلس للنقاش والحوار، مع أنها غير إلزامية أو إجبارية، و(س 7) متطرف ولكنه مع ذلك يطلب السجن الانفرادي هرباً من أمير الغرفة الإرهابي، وهناك موقوفون يصلون على توقيت الرياض، وآخرون على توقيت بريدة أو على توقيت مكة المكرمة، ويفطر في رمضان على توقيت مدينته وليس الرياض حيث هو موجود، و(س 8) مسجون منذ عام 1424 ذكي جداً من بريق عينيه وبديهته وقوة ذاكرته، يتذكر كل من زاره قبل سنين ويحفظ الأرقام بلمحة، سألني عن رؤساء التحرير السابقين وبعض الكتاب، كان في فترته الأولى لا يرد على أحد ويرمي الطعام المقدم إليه ويعيش على اللبن والتمر، وهو الآن يأخذ ويعطي في الكلام ويحاور ويناقش غير أنه ليس سهلاً.
03 المستَغلون المجيشون
أما الفئة الثالثة وهم الأغلبية ويصلون إلى نحو 60 % من الموقوفين فهم الذين تم استغلالهم عبر جهات هي الإنترنت، ووسائل الإعلام الداعشية والجهات الخفية التي تجيشهم إيران من خلالها، والشيوخ الذين أضلوهم وتحريض رفاق السوء، وجميعهم من الشباب الذين نرى نظراءهم في بيوتنا وأحيائنا ومدننا، جلست معهم وتحدثت وناقشت ورأيتهم يقرأون ويكتبون ويرسمون كاريكاتيرات واسكتشات ولوحات وينشدون ويمثلون مسرحيات وأحدهم استقبلنا بشيلة، ويلعبون الكرة ويمارسون الرياضة، تذكرت وأنا معهم طلابي في قاعات الدرس نفس الأعمار والروح والضحكة ومن نفس شرائح المجتمع، إلا أن هؤلاء الشباب وقعوا لسبب من الأسباب في المكان الخطأ مع الأشخاص الخطأ واتخذوا القرار الخطأ، والجميل في الأمر أن معظمهم في هذه الفئة يعون ويدركون سلسلة الأخطاء هذه.
الحائر يعاكس تدمر السوري فالداخل مولود والخارج موجود
ما هو متعارف عليه في سجن تدمر السوري منذ أيام حافظ الأسد أن الداخل مفقود والخارج مولود، لكن الذي وجدناه في الحائر هو أن الداخل مولود والخارج موجود، فهناك من كانوا يموتون وهم أحياء في سجون العراق وسورية وجوانتانامو، وسعت الدولة إلى نقلهم إلى بلدهم وإعادة تأهيلهم فكرياً وجسدياً واجتماعياً، وفي إحدى الغرف داخل السجن لقيت (س9 وس10) يدرسان البكالوريوس عن بعد، يتابعان القنوات ويقرآن الكتب والروايات، ويطلبان كتباً يشتريانها من مصروفهما ويشجعان الهلال، و(س11) نصراوي أنهى البكالوريوس في الإدارة ويحلم بمواصلة الماجستير، وقبل شهر تخرج من سجن أبها مجموعة من الطلاب وسيتخرج من الحائر نحو 100 موقوف كلهم درسوا عن بعد، وعدد كبير من النزلاء وجدناهم في أجنحة إدارة الوقت حيث يتنافس الشباب في تقديم الفقرات في حفل مسرحي تمثيلي وأناشيد، ولهم قناتهم الخاصة داخل السجن يبثون عبرها مقاطعهم، وتجد (س12) يقوم بتوزيع الصوت عبر جهاز حديث و(س13) يقوم بعملية المونتاج من برامج وأجهزة لا تراها إلا في أفضل ستوديوهات الإنتاج، وقاموا بعمل جنادرية مصغرة في السجن وقدموا لنا بعض اللوحات التشكيلية التي رسموها ومجلة روائع التي أصدروا منها (3) أعداد بخط اليد، وأدهشني جمال الخط وروعة الأسلوب ورسوم الكاريكاتير والاسكتشات بأقلام الرصاص بمهارات نفتقدها لدى كثير من الطلاب، وفي مكتبة الجناح تجدهم يقرأون إلى جانب سبل السلام وفتاوى ابن عثيمين والتفاسير كتبا لعلي الطنطاوي وغازي القصيبي وروايات لأجاثا كريستي وشارلز ديكنز وغيرها كثير.
غير أن الأمر ليس جميعه بهذا البياض فهناك الأسود والرمادي على اختلاف درجاته فبعض النزلاء يرفضون التمثيل ويرون حرمته وقبل يوم الحفل جاء المشاركون الثمانية يطلبون إضافة زميل لهم رغم أن الوقت تنظيمياً لا يسمح بذلك وأصروا على ذلك لأن الشخص الجديد كان ممن يرفضون التمثيل لحرمانيته ثم تراجع عن ذلك، و(س13) لا يرد ولا يتكلم وعنده مصحف ويمد رجله غير متأدب أمام القرآن والناس، و(س14) شاب عمره 20 سنة يذهب إلى الاستحمام وتعين لمثلهم إدارة السجن مرافقين من الأفراد وكبار السن في مقام والده أو جده ويطلب منه أن يناوله المشط ببذاءة وصلف وسوء أدب ويتعامل معه الفرد بهدوء فيه من حلم الكبار وصبر الأب الحليم الشيء الكثير.
برنامج يحول المخططين والمساندين والقتلة الإرهابيين إلى مجموعة ترتبط بالخضرة والحياة
قضيت وقتاً في المشتل مع نزلاء في برنامج إدارة الوقت، بيتان محميان أحدهما للخيار والآخر للكوسة، وما استوقفني ليس موضوع قتل الوقت وتفريغ الطاقة أو إنتاج الخضار ولكن دلالة العمل في المشتل؛ شباب قبض عليهم في عمليات إرهابية يقومون بها أو يخططون لها أو يساندون القائمين بها، وشباب يرون القتل رسالة والموت شرفاً والتفجير واجباً، يتحولون إلى مجموعة تتعهد البذور حتى تنمو وتنتج، شباب يرتبطون بالخضرة والنماء والحياة ويتعلقون بالنباتات ويتنافسون، ولكل جناح ركيب خاص داخل المحمية أحدهما اسمه الخير والآخر النماء، ولكل نزيل نبتة منها يرتبط بها ويتعهدها ويتفقدها دائماً، حتى إذا أثمرت أخذها لجناحه وما فاض منها يحوله إلى مطبخ السجن، أعطوني خيارة منها وقضمتها كما لم أذق مثلها في طعمها وأحسست فيها فكراً وحياة وأملاً وليست مجرد نوع من الخضار أجد صندوقاً منه في الحلقة بعشرة ريالات.
هناك كتاب اسمه مذكراتي في السجون السورية لآرام كرابيت تقرأ فيه كيف تعاقب أسرة السجين عكس ما هو موجود هنا والحديث عن شواهده يطول، وينتقد البعض هذه المعاملة ويرون أن فيها مبالغة وكأنها نوع من المكافأة لهم، وهي وجهة نظر قد تبدو منطقية من زاوية الحرية، لكن هؤلاء سجناء وسلب الحرية عقوبة لكن سوء المعاملة انتهاك، وأنا إذا سلبت شخصا حقه في الاختيار فمن الظلم أن أختار له أسوأ الأمرين إلا بحكم، وآمرو السجون ليسوا قضاة ولا جلادين وإنما هم منفذون للأحكام وفق الشرع والنظام والمروءة والإنسانية، من منطلقنا نحن وليس من منطلق الإرهابيين، وإلا لانعدم الفرق بيننا وبينهم، وهذا الأمر قد لا نختلف عليه ولكن تبقى مسألة درجة الرفاهية هي مثار الجدل في الفرق بين الضروري والزائد عن الحاجة والرعاية التي تصل إلى حد الدلال.
سجن يركز على الإصلاح ويقدمه على العقوبة
نخطئ كثيراً حين نظن سجن المباحث عالماً مجهولاً مخيفاً ومغلقاً، أو أن جميع من فيه عناصر إرهابية يجب بترها من المجتمع، وهو شعور ينتابنا مع كل عملية إرهابية تحدث أو يتم إحباطها، لكن مع الأبواب المفتوحة والمعاملة الحسنة ومجابهة الفكر بالفكر وجدنا أن هناك فئات مختلفة، فمنها من هو مستمر في غيه وتكفيره وتفكيره لا يتراجع بنصح أو معاملة أو حوار، بقي في السجن سنوات طويلة وإن خرج فلكي يقتل ويفجر، ومنهم يحتاج إلى وقت وجهد وجلد وفي النهاية لا شيء مضمون، وكما قال تعالى : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، ولكن تبقى الرسالة كما قال الأمير محمد بن نايف: لو طلع واحد صالح يكفينا، تمثلا بالهدي النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".
وكالات-