سالم الظاهري - الخليج الجديد
كما لرمضان في حياة الأحرار خارج السجون الإماراتية نكهة ومذاق خاص أيضا لرمضان في حياة الأحرار داخل السجون، ذكريات ومعاني ومواقف ودقائق وثوان مغموسة في ذاكرة من قبع وما يزال حتى يومنا هذا بالكثير من الشجون، ومن خلال جولة لعدد من الأحرار في سجون الإمارات العمومية منها والسرية، سجلت عددا من اللقطات والقصص المعبرة عن مجتمع محاصر بالجدران العالية والأسلاك الشائكة والكاميرات الخفية والبوابات الحديدية والإلكترونية، مجتمع لم يتخذ الخيل والبغال والحمير والكلاب وسيلة للترفيه فحسب بل وسيلة كذلك للإرهاب النفسي والمجتمعي لكل حر يقبع داخل هذه الأسوار مقيدة حريته بأساور معدنية صنعت كغيرها من أدوات التقييد في أمريكا وألمانيا، حتى الذئاب البشرية القادمة من نيبال وفيتنام وقيرغيزستان، صنعت ودربت أيضا على أياد أمريكية، تنفذ وتطيع ما تؤمر به بلا مراعاة لشيبة طاعنة أو حماسة ثائرة، يحركها غريزة فطرية منحرفة بالتقرب إلى بوذا أو البقر أو النار أو الصليب، فلا تعرف لرمضان حرمة أو قدسية.. لهذا الدور الخاص استقدمتهم السلطات الإماراتية بعدما تعززت الشكوك لندرة قيام عناصر عربية بما يقومون به من انتهاكات فضحها تقرير «غابرييل نول» المقررة الأممية الخاصة باستقلال القضاء والمحامين قبل أيام، كشفت عن تلقيها نحو مئتا تقرير عن حالات تعذيب قامت بها السلطات بحق محتجزين أثناء فترات الإخفاء القسري بمعسكرات التحقيق السرية.
أولا : السجون السرية
يروي لنا «سلطان الجابر» مصاعب التجربة وصعوبة الذكرى في معسكرات التحقيق السرية والتي حدد مواقعها الثلاث (المشرف وسويحان والعين) بإمارة أبوظبي بأن رمضان بالنسبة لهم كغيره من الشهور والأيام لا يعرف مواعيد الإفطار أو السحور إلا إذا استمع عبارة «كانا كانا» وهي بالأردو تعني الطعام جاهز، أو الطعام وصل، موعد تناول الوجبات، فيفتح عليه باب زنزانته الفردية قبل موعد أذان المغرب بدقائق ويوضع له الصينية «الجراية» ذات اللون البرتقالي الخفيف مصحوبة بكوب ماء وثلاث تمرات، وتشمل الوجبة أرز مع ثلاث قطع صغيرة الحجم من اللحم أو السمك أو الدجاج وقليل من الصلطة الخضراء وتفاحة أو موزة أو برتقالة أو ثلاث شرائح من البطيخ.
ويقول «سلطان»: «ينتظر السجين الحر حتى سماعه للأذان من الساعة الإلكترونية الموضوعة أمام الممرات لمعرفة دخول وقت الصلوات، فيقوم سلطان بعدها بتناول الشراب والتمر وأداء صلاة المغرب ليبدأ في مباشرة تناول وجبة الإفطار المحددة بخمسة عشر دقائق من تسلمها، ليقوم عسكري آخر بتسلم الصينية في الوقت المحدد وتسليمه كوبا غير ممتلئا من الشاي الموضوع فيه زيت الخروع لمعالجة حالات الإمساك الشديدة الناتجة عن حالة التوتر التي يعيشها السجين».
ويلفت «الجابر» النظر إلى أن السجان يأتي مرة أخرى ليذهب به إلى دورات المياه بعد تجريده من كافة ملابسه الداخلية والخارجية والاكتفاء «بشرشف» أو فوطة يقدمها له السجان ليلفها على نصفه السفلي ليستر عوراته، ثم يقف معطيا ظهره للسجان ليضع على عينيه الغمامة القماشية السوداء «المخصصة للسجون السرية فقط» وينزعها عنه عند باب دورة المياه ليقوم بغسل يديه من تناول طعام الإفطار والوضوء استعدادا لصلاة العشاء التي يصليها كل نزيل حر بمفرده في زنزانته حتى يأتي دوره في التحقيقات المسائية.
ويضيف «الجابر» أن السجين الحر كان يعيش ليل رمضان ما بين القرآن والصلاة ما لم تستدعيه سلطات التحقيق، ويظل هذا حاله حتى يأتي موعد السحور فتتكرر على مسامعه عبارة «كانا كانا» والذي عادة ما يكون عبارة عن صحن من الأرز الأبيض وكوب من الزبادي «روب» وثمرة فاكهة من الفواكه المعتادة، ويظل هكذا حاله حتى صلاة الفجر ليقوم السجان مرة أخرى بنقله بنفس الطريقة والآلية التي ذكرناها بعد وجبة الإفطار، ويضاف إليها الذهاب إلى العيادة الطبية لتناول العقاقير المقررة له إذا كان من أصحاب الحالات المرضية المزمنة، وهذا ما يمكن تناوله لاحقا.
ثانيا: سجن الصدر بأبوظبي
ويذكر لنا «سالم سعيد ساحوه» الذي قضى شهورا في سجن الصدر العمومي كان من بينها شهر رمضان، حيث يقتضي نظام السجن بخروجنا من الزنازين والعنابر ثلاث مرات في اليوم والليلة على النحو التالي وكانت عبارة «كانا كانا» مفتح السر أيضا لتناول الأطعمة والمشروبات:
الخروج الأول:
قبل المغرب بساعة لتسلم الصينية «الجراية» لتقف بها في طابور طويل ليضع لك عامل المطبخ والذي يكون عادة من المساجين الجنائيين كذلك قليل من الأرز وربع دجاجة أو سمكة شعري أو سردين أو قطعة لحم أو نقانق مع كوب زبادي وثلاث تمرات وننتظر في البهو المكشوف بين العنابر تحت حراسات مشددة لنسمع أذان المغرب ليبدأ بعدها المساجين تناول الإفطار ثم غسل صحونهم ثم صلاة المغرب ليبدأ بعدها نزلاء كل عنبر في الاصطفاف جالسين على الأرض ليقوم العسكري بإحصاء الأعداد ثم السماح لهم بالدخول إلى زنازينهم وإغلاق البوابة الرئيسية لكل عنبر حتى ينتهي نزلاء كل عنبر في أداء صلاة العشاء والتراويح جماعة أو فرادى في الممر الواقع بين الزنازين التي كانت يتراوح أعداد النزلاء بها ما بين 200 إلى 250 نزيلا في كل عنبر من عنابر سجن الصدر.
الخروج الثاني:
في العاشرة والنصف مساء لشرب الشاي والدخان مدة لا تزيد عن النصف ساعة نظرا لأن التدخين ممنوع رسميا في الزنازين، لكنه مسموح به واقعيا، وهذه الفترة كان السجين يتحمل تكلفتها ماليا إذ أن لكل عنبر كانتين متحرك خاص به يباع فيه الشاي والعصائر والدخان والبسكويت وغيره من احتياجات النزلاء الخفيفة، وكان النزلاء ينتظرون هذه المساحة الترفيهية بفارغ الصبر للخروج من حدة النزاعات والخلافات التي تنشأ بين المساجين الجنائيين من الجنسيات غير العربية بسبب لعب الورق وغيره فيما بينهم.
الخروج الثالث:
في الواحدة صباحا لتناول وجبة السحور حيث يصطف المساجين حاملين الصواني الاستانلس ليحصلوا على وجباتهم والتي عادة ما تكون ربع دجاجة تزن 120جم تقريبا وشوية عيش أرز أو رغيف مع كوب من الشاي بالحليب وطبعا بزيت الخروع، وتتكرر عملية الإحصاء العددي للسجناء التي تمت بعد وجبة الإفطار، ثم يتم إحكام الغلق على المساجين في زنزاناتهم حتى موعد الخروج الأول من اليوم التالي، إذ أن وجود دورات المياه داخل كل زنزانة كان كفيلا بأن يجعل السجناء يقبعون فترات طويلة جدا داخل الزنازين دون حراك أو تهوية أو تمشية في الهواء والشمس.
ثالثا: سجن الوثبة العمومي
«عبدالله الحمادي» يذكر لنا كيف قضى رمضان في سجن الوثبة العمومي، قائلا: «الإعاشة في سجن الوثبة تختلف تماما عن غيرها من السجون السرية والصدر اللذان سبق له أن يمضي فيهما شهورا قبل ترحيله إلى سجن الوثبة، ويقول ورغم أنه سجن كغيره من السجون إلا أن ما يتمتع به السجناء من حقوق يختلف تمام عن غيره، فسجناء كل عنبر مغلق عليهم الأبواب الرئيسية، بينما تظل أبواب الزنازين مفتوحة دائما ويتنقل السجين بين الزنازين ليزور ويتعرف على غيره من أبناء جنسيته أو غيره، ويوجد بهو فسيح لكل عنبر يمثل بالنسبة لنزلاء كل عنبر مصلى وسينما في آن واحد، فوقت الصلوات الخمس يفرش السجناء السجاد للصلاة جماعة بعد الأذان الموحد والالكتروني من غرفة الكنترول على الميكروفونات، ثم تجمع المساجين وراء إماما سجينا منحته سلطات السجن حق إمامة المصلين في الصلوات الخمس والتراويح وإلقاء خطبة الجمعة المطبوعة والموحدة والصادرة من هيئة الأوقاف».
ويستطرد «الحمادي»: «وعندما تنتهي الصلوات يرفع السجاد لتشتغل السينما وهي عبارة عن شاشة تلفزيون 42 بوصة على اتصال بدش مركزي تتحكم في برامجه السلطات المختصة والتي عادة ما تلبي حاجات كل شرائح النزلاء وبحد أقصى منتصف الليل باستثناء أيام الخميس والجمعة فبدون سقف زمني لأن السبت كان عطلة المحاكم وبالتالي كانت السلطات تجبر السجناء على النوم مبكرا من خلال إطفاء إضاءة الزنازين والتلفزيون، وتحظى الأفلام الهندية والأكشن الأجنبية وروتانا سينما ومباريات كرة القدم المحلية والأجنبية الأفضلية حيث تحظر السلطات كافة النشرات أو الأخبار السياسية بعد أحداث مؤسفة وقعت بين مساجين سوريين مؤيدين لبشار وآخرين معارضين له».
وحول الطعام أوضح «الحمادي» أن عبارة «كانا كانا» أيضا مفتاحا لتناول وجبتي الإفطار والسحور ولكن في سجن الوثبة يضاف إليها صفارة عريف العنبر وإلزامية خروج كافة المساجين والتوجه نحو المطعم المخصص لتناول الوجبات والتي كانت مقسمة على النحو التالي:
وجبة الإفطار (سمك أو دجاج أو لحم + أرز + صالونة فاصوليا ناشفة + مهلبية كستر + موز أو برتقال أو تفاح).
وجبة السحور (شعرية أو هريس أو كيما أو مكرونة أو عدس أو فول أو نقانق + بيض أو مربى أو عسل أو جبنة نستو مع خبز).
أما عن الدواء فيذكر لنا «الحمادي» أن غرفة تناول الدواء كانت مركزية لكل عنبر ولا يخرج إليها النزلاء إلا من كان له وصفة دوائية والاستلام ببطاقة السجين وتناول الدواء يكون أمام الصيدلي والحراسات الخاصة حيث يمنع تمام اصطحاب الدواء إلى داخل العنابر أو الزنازين.