تشهد شركات العلاقات العامة والدعاية، التي لا تتورّع عن تلقي أموال البترودولار، طفرة. وكانت آخر مشاريعها إقناعنا بأن «جبهة النصرة» لم تعد فرعاً لتنظيم «القاعدة» في سوريا. أو كما قال متحدث باسم «النصرة» (مصطفى محمد) لشبكة «سي ان ان» الأميركية، إن الجماعة المتمرّدة التي غيّرت اسمها والتي يُفترض أنها انفصلت عن تنظيمها الأم، باتت «معتدلة».
يُعدّ هذا الأمر بمثابة الترويج للتعصّب الذي ساد في العصور المُظلمة على أنه الرؤية المُشرقة للقرن الحادي والعشرين. لكن مشكلة زبائن هذه الشركات، وأغلبهم من السعوديين الأغنياء الذين بذخوا في تمويل «جبهة النصرة»، تكمن في أن الدليل على سياساتهم المُدمّرة «لا يُمكن تزييفه»، فإن مشهد ذبح طفل فلسطيني لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره على يد «معتدلين» دليل على هذه الحقيقة المروّعة.
منذ اعتداءات 11 ايلول 2001، لم تستطع الوهابية المتشدّدة تغيير ايديولوجيتها على الرغم من أنها بدّلت العديد من أقنعتها، سواء من خلال حركة «طالبان» أو تنظيم «القاعدة» أو أحد فروعه المُستحدثة ما يُسمّى «الدولة الإسلامية»، وهي ليست دولة ولا إسلامية. لكن الملايين من الناس الذين شهدوا وحشية «جبهة النصرة» لا ينطلي عليهم وهم الانفصال هذا. فالمحاولات السابقة لتحسين صورة «النصرة» تهدف إلى تسهيل تدفّق أموال البترودولار للجماعات الإرهابية في سوريا علنا بعدما كان يجري سراً، وإغراء الحكومات الغربية بدعم هؤلاء «المُعتدلين». ومما لا شكّ فيه أن سيطرة «النصرة» على تحالف الفصائل المُسلّحة في حلب حقيقة تُفنّد ما تُروّج له هذه الشركات.
تستند جهود السعودية لإقناع رعاتها الغربيين بدعم سياساتها الضيّقة، إلى فرضية خاطئة تقوم على أن إغراق العالم العربي بمزيد من الفوضى سيضرّ إلى حد ما بإيران. وتُعارض الأوهام حول أن عدم الاستقرار في المنطقة سيُساعد على احتواء إيران وأن التنافس بين المسلمين السنة والشيعة يُغذّي الصراعات، حقيقة أن الوهابيين ارتكبوا أسوأ نماذج العنف في المنطقة من محاربة إخواننا العرب وقتل إخواننا السنة.
وبينما استهدف هؤلاء المتطرّفون المسيحيين واليهود والإيزيديين والشيعة وغيرهم من المذاهب، فإن العرب السنّة هم أكثر المتضرّرين من عقيدة الكراهية هذه. وفي الواقع، سيترك الصراع بين الوهابية والتيار الإسلامي، لا الصراع الطائفي القديم بين السنّة والشيعة، عواقب وخيمة على المنطقة وخارجها.
وإذا كان الغزو الأميركي للعراق في العام 2013، هو الذي أثار النزاعات التي نشهدها اليوم وزاد من حدّتها، إلا أن المحرّك الرئيسي لهذا العنف هو الايديولوجيا الوهابية التي روّجت لها السعودية والتي كان الغرب غافلاً عنها حتى أحداث 11 ايلول.
حاول أمراء الرياض، يائسين، إعادة إحياء الوضع العراقي أيام حكم صدام حسين، والمتمثّل بقيام حاكم وعميل ومستبدّ ومدعوم مادياً من عرب المنطقة والغرب الساذج، بمواجهة ما يسمى «التهديد الإيراني». لكنّ مشكلتهم اليوم، هي في أنه لا يُمكنهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فصدام حسين مات منذ وقت طويل. وكلما تصالح حكام السعودية مع هذه الحقيقة سريعاً، كان هذا أفضل للجميع. ومتى غيّرت الرياض سياستها الراهنة، يُمكن استيعابها ضمن الواقع الجديد في المنطقة.
ولكن ما هو التغيير المنشود؟ خلال العقود الثلاثة الماضية، أنفقت السعودية عشرات مليارات الدولارات لتصدير الوهابية إلى العالم من خلال بناء آلاف المساجد والمدارس الدينية، لكنّ التحريف في الدين خلّف الكثير من الضرر، من آسيا إلى أفريقيا، ومن أوروبا إلى الأميركيتين. فكما قال أحد المتطرّفين السابقين في كوسوفو لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية: «السعوديون غيّروا الإسلام بأموالهم» في منطقة البلقان.
وعلى الرغم من أنها لم تجذب سوى نسبة قليلة من المسلمين، إلا أن تأثير الوهابية كان مُدمّراً، بحيث شكّلت مصدر إلهام لكل مجموعة إرهابية أساءت استخدام الإسلام، من «القاعدة» إلى فروعها في سوريا وصولاً إلى «بوكو حرام» في نيجيريا.
نجح السعوديون، حتى الآن، باستخدام ورقة «إيران»، في جرّ حلفائهم نحو هذه الحماقة سواء في سوريا أو اليمن، لكنّ هذا الأمر سيتغير بالتأكيد، مع ما يكشفه الدعم السعودي المستمر للتطرّف من زيف ما تدّعيه الرياض بأنها عنصر استقرار في المنطقة.
لم يعد العالم يحتمل إمعان الوهابية في استهداف المسيحيين واليهود والشيعة والسنّة. ومع غرق جزء كبير من الشرق الأوسط في الفوضى، هناك خطر بالغ بأن تندلع الفوضى في ما تبقى من مناطق مستقرّة نسبياً، جراء هذا الصدام بين الوهابية والتيار السني.
هناك حاجة لعمل منسقّ داخل الأمم المتحدة لقطع التمويل عن الايديولوجيات التي تُحرّض على الكراهية والتطرّف، ولإرادة من قبل المجتمع الدولي للتحقيق في القنوات التي تُغذّي هذه الجماعات بالمال والسلاح. في العام 2013، اقترح الرئيس الإيراني حسن روحاني مبادرة بعنوان «عالم مُناهض للعنف والتطرّف»، وعلى الأمم المتحدة أن تبني على هذه المبادرة من أجل إطلاق حوار شامل بين الأديان والمذاهب المختلفة من أجل مواجهة العصبيات الخطيرة التي تعود للقرون الوسطى.
من شأن هجمات نيس وباريس وبروكسل، أن تُقنع الغرب بأنه لا يُمكن أن يغفل عن التهديد الوهابي «السامّ». فالأخبار الكارثية التي تكرّرت أسبوعياً مع بداية العام الحالي، تُلزم المجتمع الدولي بأن يتجاوز عبارات السخط والاستياء والتعاطف إلى تحركّ عملي ملموس ضدّ التطرّف.
وعلى الرغم من أن الكثير من أعمال العنف التي تُرتكب باسم الإسلام، تُعزى للوهابية، إلا أنه يُمكن للسعودية أن تكون جزءاً من الحل. لذلك أدعو أمراء السعودية إلى التخلّي عن خطاب الاتهام والتخويف والتهديد، والتكاتف مع المجتمع الدولي من أجل القضاء على آفة الإرهاب والعنف التي تُهدّدنا جميعاً.
نيويورك تايمز-