اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود- الجزيرة السعودية-
كان اجتماع الدَّرعية التاريخي الشهير المبارك، بين الإمام محمد بن سعود وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1157هـ/ 1744م، نقطة انطلاق مهمة لأروع تحوُّل فكري، سياسي، اجتماعي وقل اقتصادي أيضاً في وسط الجزيرة العربية. حين تعانقت قوة السلطة المؤمنة وقوة الفكر السلفي الذي انبثقت منه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية، التي اهتمت بالعقيدة الصحيحة، التي تقوم على التمسك بالكتاب والسُّنَّة لتوحيد الله جلَّ وعلا وإفراده بالعبادة دون سواه، ومحاربة كل مظاهر الشرك والبدع والخرافات والضلالات، وتنقية العقيدة السلفية الخالصة من كل ما علق بها من شوائب ودجل. كما اهتمت الدعوة السلفية في الوقت نفسه، بضرورة العيش تحت قيادة إسلامية موحّدة عادلة، تُحَكِّم الشريعة الإسلامية، وتلتزم بتطبيق منهجها قولاً وعملاً، وتحمل الرعية على الامتثال له. فوحَّدت الصفوف، وجمعت الكلمة حول إمام واحد، وأغلقت أبواب الخروج والافتئات عليه ومنازعته الأمر، وقرَّرت النصح له بالطرق الشرعية التي تحفظ للأُمَّة هدفها السامي لتحقيق التوحيد الخالص، وعبادة الله وفق ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، إضافة للقيام بعمارة الأرض بما يحقق المصلحة العامة لسائر البشر في مشارق الأرض ومغاربها.
فلا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا ببيعة وطاعة؛ فكانت تلك البيعة المباركة التي أعلنت بزوغ فجر الدولة السعودية الأولى، دولة الإسلام والتوحيد الخالدة في ربوع الجزيرة العربية، التي امتدت من الخليج حتى البحر الأحمر، ومن أقاصي عمان حتى أطراف الشام والعراق. فحمت البلاد بتوفيق الله من كل شر، وحصَّنت الحِمَى، واستقر بها الأمر لأهله، وساد الأمن والأمان والاطمئنان، وعمَّ الخير. فأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، فعبدوا ربهم على بصيرة؛ وبدأ تاريخ الجزيرة العربية الحديث كما يؤكّد فيليب حتى في كتابه: تاريخ العرب، إذ يقول: (إن تاريخ الجزيرة العربية الحديث يبتدئ منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري، حين ظهور حركة الموحّدين في الجزيرة العربية، وحين شاركت قوة الدين سلطة الحكم). فانطلقت مسيرة خيرنا القاصدة المباركة التي ما زالت تلتزم بالمبدأ وتسير على النهج منذ ثلاثة قرون إلا قليلاً، وستظل كذلك إلى الأبد إن شاء الله: تسارع إلى المجد والعلياء، وتمجِّد خالق السماء، وترفع الخفَّاق الأخضر الذي يحمل النور المسطر، وتُرَدِّد: الله أكبر يا موطني.. موطني عشت فخر المسلمين، عاش الملك والعَلَم والوطن.
أقول، حتى ذلك الوقت، حين استتب الأمر لأهله، لم تكن الدولة العلية العثمانية - كما كان يحلو لأهلها تسميتها - التي حكمت نصف العالم لستة قرون تقريباً، تولي شأن الدولة السعودية والدعوة السلفية أي اهتمام يذكر، نتيجة ما كان يرد للباب العالي من تقارير كاذبة من ولاتهم في مصر والعراق والشام، حسبما جاء في وثائق الأرشيف التركي نفسه.
فلما استتب الأمر لأهله، وقويت شوكتهم، كان لا بد لأئمة آل سعود من الالتفات لِلُحْمَة رسالتهم وسداها: خدمة الحرمين الشريفين والعناية بهما، وتأمين الحجاج والمعتمرين والزوار ورعايتهم، ليوأدوا مناسكهم في يسر وأمن وأمان واطمئنان؛ فهم كما يرددون دائماً: ليسوا سعاة حكم وسيطرة، بل أصحاب رسالة سامية عظيمة. فطار صواب الدولة العلية العثمانية، واستشعرت خطر دولة الإسلام الجديدة ودعوتها السلفية خوفاً من فقدان سلطتها في الإشراف على الحرمين الشريفين وخدمة الحجاج، ليصبح الأمر تحت مظلة أئمة آل سعود، فتفقد بالتالي مكانتها المزعومة وهيبتها في العالم الإسلامي بعد سحب البلاط من تحت أقدامها.
فقرَّرت القضاء عليها بأي ثمن، فشنَّت في البداية حرباً إعلامية شرسة ضد الدعوة السلفية عبر ولاتها في مختلف المناطق، من خطب في المساجد والمناسبات، إلى فتاوى مضللة تصدر هنا وهناك، ترميها بالكفر وتتهمها بالزندقة، بهدف تشويه سمعتها وتنفير المسلمين عنها. وهكذا استعرت نار تلك الحرب الخبيثة المغرضة، التي تشنّها الدولة العثمانية ضد الموحّدين، تارة باللسان وأخرى بالسِّنان، عبر مختلف مراحل الدولة السعودية الفتية.
ويقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في هذا، قولاً أجده في غاية الأهمية، خاصة لأولئك الذين لا تزال غشاوة الدعاية التركية المغرضة تعمي أبصارهم عن إدراك الحقيقة: (كلمة الوهابية هذه في الحقيقة سياسة تركية، أفشتها في زمن انحراف الأتراك عن الحكم الإسلامي، فعندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلاد نجد، وبدأت تُعَلِّم الناس أمور دينهم وتحذّرهم من الشركيات والوثنيات، وقويت شوكتها بمساندة أئمة آل سعود لها إثر اقتران السيف والعِلْم، وانتشرت الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له بقوة السلطان حتى بلغت العراق؛ آنئذٍ خاف الأتراك عاقبة أمر تلك الحركة العربية المباركة التي نشأت في جزيرة العرب، وما تشكله من تهديد حقيقي بالقضاء على حكمهم. فأوعزوا إلى محمد علي باشا الذي كان يحكم مصر يومئذٍ تحت راية السلطنة العثمانية بقتال هؤلاء النَّجديين - ولا أقول الوهابيين - فأرسل محمد علي ابنه طوسون باشا بجيش عرمرم ضخم من مصر إلى البلدان النجدية، حيث سالت الدماء أنهاراً، وتغلبت القوة الغاشمة في النهاية على الدعوة الصحيحة، وقُتِلَ من قُتِل.
وكان من جملة وسائل الأتراك في تلك الحرب كما هو اليوم تماماً في الدعاية التي لها تأثير أكثر من السلاح نفسه. فبثوا دعاية في العالم الإسلامي ضد أهل نجد حتى يكونوا مع الأتراك وينفضوا عن هذه الدعوة الحبيبة الفتية التي تدعو إلى «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؛ فأذاعوا في المسلمين أن النجديين لا مذهب لهم، بل مذهبهم خامسي، لا يتورّعون عن التَّقوّل على الرسول صلى الله عليه وسلم - ذكر الشيخ الألباني هنا قولاً تقوَّله الأتراك على لسان أهل نجد، لا أجرؤ على ذكره لبشاعته - كله كفر وزور وبهتان. فتأثرت الجماعات المسلمة في كل بلاد الدنيا، وكان من تمام التأثر والخطأ أن سموا أهل نجد بـ «الوهابية».