اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود- الجزيرة السعودية-
وعلى كل حال «الوهابية» نسبة إلى «وهابي»، و»وهابي» نسبة إلى «الوهاب»، الذي هو الله تبارك وتعالى. فهذه نسبة تُشَرِّف من ينتسب إليها، لا تُحَقِّره. لكنها السياسة التركية الغاشمة، خاصة أن معظم المنتسبين إليها لا يجيدون اللغة العربية.. فمضى زمن طويل والعالم الإسلامي مُضَلَّلٌ بهذه الكلمة، إلى أن شاء الله تبارك وتعالى، فجاء الملك عبد العزيز آل سعود ودخل الرياض فاستعاد حكم آبائه وأجداده، وبدأ يطبق الأحكام الشرعية، فاستقر الأمن في البلاد النجدية بعدما شاعت فيها السرقة والنهب والسلب والقتل؛ وتبع ذلك استقرار الأمن في البلاد الحجازية التي كانت، كما نعلم جميعاً من التاريخ التركي نفسه، أن الحجاج لم يكونوا ليستطيعوا الحج إلا ومعهم عسكر من الأتراك يحمونهم من اللصوص وقطاع الطرق؛ فأصبح الحجاج في زمن الملك عبد العزيز يؤدون مناسكهم بكل سهولة ويسر).. انتهى حديث الشيخ الألباني.
أقول، لم تألُ الدولة التركية جهداً في محاربة الدولة السعودية وعقيدتها السلفية الصحيحة الخالصة، تارة باللسان وأخرى بالسِّنان كما تقدم، منذ بزوغ فجرها الأول، بهدف القضاء عليها، كما يؤكد رد محمد علي باشا على رسل الإمام الشهيد عبدالله بن سعود بن عبد العزيز آل سعود، آخر أئمة آل سعود في الدولة السعودية الأولى، إِذ يقول: (يتعهد محمد علي باشا بالقضاء على الدولة السعودية وتحطيم الدرعية في الوقت المناسب)، تنفيذاً لأجندة الباب العالي بإسقاط الدرعية والقضاء على الدولة السعودية وأئمتها وعلمائها الذين أقلق نجاحهم في خدمة الحرمين الشريفين وانتشار دعوتهم في ترسيخ الإسلام الصحيح الذي يستند إلى التوحيد وينبذ كل ما عداه من مظاهر الشرك والوثنية، أقلق الدولة العثمانية التي كانت تستغل جهل الناس بالعقيدة الصحيحة لضمان ولائهم.
وهكذا سقطت الدرعية في 9- 9- 1818م، وما أعقب ذلك من أحداث إثر سقوط الدولة السعودية الثانية واستغلال الدولة العثمانية ما ترتب عليه من فراغ سياسي لدعم كيانات موالية لها، معروف لدى الجميع، فلا حاجة لي بتكراره؛ غير أنني أردت الإشارة هنا إلى أن هذا الفهم السقيم العقيم نفسه ما زال راسخاً في أذهان أعداء الدعوة السلفية للأسف الشديد، حتى في أيام الملك عبد العزيز، مع أن الدولة العثمانية كانت تنازع الرمق الأخير قبيل أفول نجمها، فوضعت كل ما استطاعت من عراقيل أمام مسيرته الظافرة، تارة بالإيعاز إلى زعماء المشيخات والإمارات التي تدعمها لطلب النجدة من عبد العزيز بهدف تبديد جهده وتشتيت تركيزه أثناء حروب توحيد البلاد، وأخرى بدعم مناوئيه صراحة بأسلحة نوعية لم تكن متوافرة لعبدالعزيز، كما حدث في حرب البكيرية والشنانة مثلاً عام 1322هـ/ 1904م؛ فانتصر الحق رغم أنف القوة التركية الغاشمة، مما حدا بالشاعر محمد بن عبدالله العوني لينشد في إحدى أشهر قصائد العرضة السعودية حتى يومنا هذا، إِذ جاء فيها قوله:
مني عليكم ياهل العوجا سلام
واختص أبو تركي عمى عين الحريب
اكرم هل العوجا مدابيس الظلام
هم درعك الضافي إلى بار الصِّحيب
فكان الملك عبد العزيز يتأثر كثيراً بتلك القصيدة الشهيرة، فينزل إلى الساحة ملوحاً بالسيف يشارك الفرسان العرضة كلما شدا بها شادٍ؛ والحال كذلك يقال اليوم عن سيِّدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك الأديب الأريب المؤرخ الفذ سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه وسدَّد على طريق الخير خطاه، أعرفنا بعبدالعزيز وتاريخه الناصع المشرق وأكثرنا به شبهاً، مستودع تاريخنا وأمين إرثنا الحضاري. ولهذا فما أن يسمع مقامه السَّامي الكريم نخوة أهل العوجا في أي مناسبة احتفالية، حتى تتداعى تلك الذكريات الحبلى بالعزم الأكيد والبطولات أمام ناظريه، فتتغير قسمات وجهه الصبوح فينادي: إلى بالسيف؛ ثم ينزل إلى الساحة يشارك الجميع تلك العرضة السعودية الأشهر التي تحمل كثيراً من المعاني والدلالات، التي لا يدركها أحد اليوم مثلما يدركها سلمان.
وصحيح، تلك صفحة من التاريخ قد طُوِيَت، أو هكذا يُفْتَرَض أن تكون؛ لكن للأسف الشديد، ما زالت تلك الأفكار التي عفا عليها الزمن تعشِّش في ذهن القيادة التركية حتى اليوم، فحيناً تصنفنا بـ(الوهابية)، وتصنفنا حيناً آخر مع الجماعات التكفيرية الإرهابية المتطرفة، حتى مع يقينها التام بجهدنا في محاربة الإرهاب حيثما كان.. ذلك الجهد الفريد الاستثنائي الذي تمخض عن تأسيس مركز عالمي لمكافحة الإرهاب والتطرف في العالم، ودعمه بمائة وعشرة ملايين دولار، شكرتنا عليه حتى الأمم المتحدة، وحمده لنا العالم أجمع.. فبكم دعمته تركيا يا ترى؟!.
ومع كل هذا، ما تزال قيادتنا الرشيدة الحكيمة، التي عُرِفت بسعة صدرها وحرصها على الاحتفاظ بعلاقات وديَّة متينة مع الجميع، لاسيَّما إخوة العقيدة والعروبة، ونأيها بالنفس عن التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة في العالم، ما زالت قيادتنا أيَّدها الله تراهن على عدم السماح لأي جهة كانت بدق إسفين بين السعودية وتركيا. لكن للأسف الشديد، ها هي القيادة التركية تستغل ظرفاً إِنسانياً مؤلماً لنا جميعاً لتدق في كل يوم إسفيناً في علاقتنا معها. وكلنا يعلم أنها وعلماؤها وأصحاب الرأي فيها، كلهم يدركون يقيناً أن الحقيقة غير ما يروجون له، سيراً على درب الدعاية العلية العثمانية المغرضة في تضليل الرأي العالمي تجاهنا، بدليل ما شهد به شاهد منهم، إِذ أكَّد المؤرخ التركي جودت، الذي عرف بعدائه السافر للدعوة السلفية، في تعليقه على حقيقة الرسائل التي كُتِبَت والكتب التي أُلِّفت لمناقضة الدعوة السلفية، موجهاً حديثه لجماعته الأتراك: (الرَّد على «الوهابية» يستوجب ثقافة واسعة، ومعرفة بأحوال البلاد العربية الدينية والاجتماعية والسياسية، ووقوفاً على علوم الدِّين، واطلاعاً واسعاً على الحركات الفلسفية، ومقدرة على الجدل والإقناع.. وكل ذلك مفقود عند العلماء الذين ردُّوا على «الوهابية»، فكل ردودهم مشحونة بالسخف والهراء، فقدموا بذلك وسيلة للسخرية منهم ومن ردودهم).. وقطعاً صدق الرجل في هذا، فـ»الوهابية» التي حاولوا إلصاقها بالدعوة السلفية هي شيء من نسج خيالهم؛ فليست الفكرة السلفية ديانة جديدة أو مذهباً خامساً محدثاً كما أشاع الخصوم، بل هي ثمار جهود صادقة مخلصة، تنادي بالعودة إلى نموذج بساطة الإسلام، والنهل في التشريع من نبعه الصافي، كما تدعو إلى حركة تطهير شاملة لكل ما علق بالمعتقد الديني من شرك وبدع وضلال وزيغ، أدت كلها إلى تشويه حقائق الإيمان، وأبعدت أبناءه عن قوة التزامه معتقداً وسلوكاً؛ كما دعت الدعوة السلفية إلى ضرورة فك الارتباط بين التقيد بالمذهب والأخذ بما يؤيده الدليل وعدم الجمود والتعصب لمذهب واحد، ومد الجسور لتعايش فقهي قائماً على البرهان والدليل بين كافة المذاهب؛ ويقول الإمام محمد بن عبد الوهاب مؤكداً هذا: (نحن بحمد الله متبعون لا مبتدعون، وعقيدتي وديني الذي أدين لله به، هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، ولست أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الئمة الذين أعظمهم كابن القيم وشيخه، أو الذهبي، أو ابن كثير وغيرهم).. تلك إذا هي حقيقة دعوتنا التي ابتدعوا لها وصفاً ظالماً مغرضاً (الوهابية) لشيء في نفس يعقوب.
وعلى كل حال، ليس الأتراك وحدهم، بل إن الغرب ما زال متأثراً حتى اليوم أيضاً بتلك الدعاية التركية المغرضة.
وصحيح، الكتابة في الصحف مهمة، والعمل عبر وسائل الإعلام بمختلف أشكالها في غاية الأهمية، خاصة في هذا العصر الذي تطالعنا فيه التقنية بشيء مختلف مع بزوغ كل فجر جديد؛ لكن هذا لا يغني عن بذل جهد حقيقي شاق، جنباً إلى جنب مع وزارة الثقافة. وقد دعوت مراراً لتأسيس مراكز إشعاع ثقافية في كل عواصم العالم -أسوة بالغرب الذي له في كل مكان مركزاً ثقافياً، هو في الحقيقة إرسالية تبشيرية تنشر الديانة المسيحية -وإثرائها بكتب تاريخنا وثقافتنا بلغة أهلها، وإرسال علمائنا ودعاتنا لإقامة ندوات ومحاضرات وتقديم دروس هناك؛ بل تأسيس أكثر من مركز أحياناً في المدينة الواحدة من تلك المدن الكبيرة، خاصة في البلدان الغربية والإفريقية.