محمد السعيدي- الوطن السعودية-
لا نعرف عصرا من العصور بعد عصر هارون الرشيد وقف فيه المسلمون في وجه الخرافة ومظاهر الشرك بالله واستناروا بالعقل والتوحيد مثل عصور ما بعد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب إن أعظم كتاب وأحكمَه وأبلغه وأهداه وأرشده، كتابُ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك يستدل منه الغالي المكفر والمفرط المرجئ، والقدري والجهمي، وذلك كله حين لا يردون متشابهه إلى محكمه، ولا يعتبرون أصول الاستدلال وحقائق معاني الكلام، وحين يغلب المرض على قلوبهم ويبتغون الفتنة كما قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب).
ومع هذا يحرُمُ أن نقول: إن القرآن هو سبب البدع ومرجع المبتدعين، وإذا صدق هذا على القرآن فهو على ما دونه من القول أصدق.
فأهل الغلو حين ينقلون عن كتابات الدعوة السلفية فيتوهم الجاهلون أو يدندن المغرضون حول كون الفكر التكفيري هو نتاج الدعوة السلفية، فليتذكر هؤلاء الجاهلون أو المغرضون: أن دعاة التكفير ينقلون أيضا عن القرآن، وكان أسلافهم من الحرورية وأهل النهروان حينما ناظروا علياً وابن عباس رضي الله عنهما إنما ناظروهم بالقرآن.
وينبغي على المنصف قبل أن يندفع بنسبة فكر الغلاة والخوارج إلى الدعوة السلفية أو نفي ذلك عنها؛ عليه أن يقوم بتقدير الوضع لو لم تظهر الدعوة أو تُؤَلَّف جميع كُتُبِها من أساسها، هل سيكون هناك خوارج وغلاة أم لا؟
والذي يبدو لكل متابع للتاريخ: أن المتمردين على الحكام تنطعاً باسم الدين ظهروا في أعدل زمان وأرغده عيشا -وأعني عهدَ ذي النورين رضي الله عنه- فحصروا بيته في مدينة رسول الله التي حرمها كما حرم الله مكة واستحلوا دمه، وخرج الخوارج على رابع العشرة المبشرين بالجنة فقطعوا السبيل وأخافوا المسلمين وكفروا رابع الخلفاء الراشدين.
ولم يزل الغلو في الدين وفتن الخوارج تتوالى في المسلمين في عهد معاوية ومن بعده من خلفاء بني مروان، هذا والشريعة مقامة وراية الجهاد مرفوعة من الصين وحتى نهر السين، وظهروا في عهد بني العباس ودولة هارون الرشيد الذي نتغنى اليوم بحجه وغزوه وصوائفه وشواتيه وعزِ الإسلام في زمانه وسحابته التي أينما أمطرت يأتيه خراجها.
ولا شك عندي أن تلك العصور في عز الدين أزهى من عصرنا هذا، فإذا كان الغلاة والخوارج ظهروا فيها، فعصرنا أولى بظهورهم من تلك العصور ولو لم تُجْمَع كتب الدعوة السلفية ورسائلها في (الدررُ السنية)، بل ولو لم يولد من كتبوها.
وهذا مقتضى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون يخرجون حتى يقاتل آخرهم مع الدجال.
وأياً ما قلنا عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأدبياتها التي تم جمعها في كتاب (الدرر السنية) فإنها هي الدعوة الوحيدة التي استطاعت تكوين دولة على أساس العصبية للتوحيد لا لغيره في حين فشلت جميع الحركات الإسلامية في فعل ذلك من بعد عهد الخلفاء الراشدين وحتى يومنا هذا، لا يشاركها هذا الفضل سوى دولة المرابطين في بلاد المغرب التي قامت على أساس إقامة الشرائع وتوحيد الأقطار، لكنها كانت ضعيفة العَدْوِ في مضمار تخليص الدين من شوائب الشرك والخرافة، ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا كل الدول التي نشأت بعد دولة الخلفاء الراشدين لم تتكون على أساس العصبية للدين والتوحيد، فدولة بني أمية على عظمتها وقيامها الجميل بأمر الدين والجهاد تأسست على العصبية للمروانية والمضرية، ودولة بني العباس على ما فيها من خير وفضل تأسست على أساس النزعة الشعوبية ثم شعار الرضى من آل محمد، واختبر التاريخ تجد صحة ما ذكرتُ.
بل حتى دولة السلاجقة ومن بعدها الدولة الأيوبية، بالرغم مما قدمتاه من إنجازات للإسلام والمسلمين، إلا أن أساس قيامهما وعزهما وقوتهما لم تكن دعوة التوحيد.
وكانت الدولة الغزنوية في عهد محمود بن سبكتكين معظمة للدين والشريعة والجهاد لكن أساس قيامها كان تَغَلُّبُ (سبكتكين) ومن بعده ابنه محمود على ما تحت ولايتهم من السلطنة السامانية.
ولكون تلك الدول الكثيرة لم تقم على عصبية التوحيد لم يتحقق منها للمسلمين نفع في جانب إحياء السنة وإماتة البدعة وقتل الخرافة ومحو مظاهر الشرك، بل ظلت البدع رغم توالي الدول القوية في تزايد حتى كاد يذهب رسم التوحيد من كل بلاد الإسلام، أما هذه الدولة التي قامت على عصبية التوحيد، فقد نفع الله بها المسلمين كافة، وانتشر ببركة الله لها، وبسببها، الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في شتى بقاع المسلمين، ولا نعرف عصراً من العصور بعد عصر الأئمة أو قل بعد عهد هارون الرشيد وقف فيه المسلمون في وجه الخرافة ومظاهر الشرك بالله واستناروا بالعقل وبالتوحيد مثل عصور ما بعد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
والعجب ممن يفرق بين الدعوة والدولة، ويرى أن ما بينهما إنما هو حِلف يمكن الانفكاك منه، فمثل هذا نقول عنه غافل عن فقه التاريخ، لأن ما بين الدولة والدعوة هو عصبية النشأة وأساسها، وكل دولة تنفك عن عصبية نشأتها لا تقوم لها بعد ذلك قائمة.
كيف لا وقد كان أجداد محمد بن سعود أمراء في الدرعية وغيرها قبل الدعوة بقرون، ولم يتسن لهم التمكين ولم تَنْقَدْ لهم القلوب وترتاض لهم سباع الجزيرة إلا بالدعوة.
فالدعوة هي أساس الدولة، وهذه الحقيقة لم تنفك شعاراً لجميع حكام بلادنا، فلم يتول قيادة هذه الدولة الكريمة أحد إلا ونص عليها في أكثر خطاباته، مما يؤكد أنها هذه الحقيقة لا تزال ولله الحمد مرعية في منهاج دولتنا وستبقى كذلك بعون الله.