يوسف الديني- الشرق الاوسط-
تطّور نوعي في آخر عملية تبناها «داعش» والمتمثلة في تحريض عائلة بأكملها تجاه ابن عمومتها واستدراجه بشكل غادر وبربري في مشهد يعطينا دلالات أكبر على فشل التنظيم في تكوين أرضية متماسكة له في السعودية بعد أن تطور استهداف «داعش» للمملكة عبر مراحل٬ كان أولها إنشاء وتدريب خلايا ممنهجة له في الداخل٬ واستقطاب كوادر من الخارج في مناطق التوتر أو التأثير على منتمين سابقين لتنظيم «القاعدة» للالتحاق بالتنظيم اللامع الجديد والذي تتخطى نجاحاته الإعلامية والدعائية مفعول ضرباته وتأثيراتها على الأرض.
لاحًقا وعبر ضربات أمنية استباقية نجحت فيها وزارة الداخلية انتقل الأسلوب من العمل الجماعي والشبكات إلى اختيار أفراد موترين بالفكرة الداعشية وتبنيها عبر الإنترنت للقيام بعمليات إرهابية ذات طابع فوضوي تستهدف مواقع أمنية٬ وهنا جزء من تعقيد مسألة الإرهاب٬ حيث يعتمد على محدودية الفعل لكن بآثار كبيرة٬ وبالتأكيد لن تستطيع كل فلسفات العالم أو استراتيجياته الأمنية على المنع الكامل لشخص يقدم على الانتحار وبشكل مجاني بلا قضية أو تأثير٬ ومن هنا فالاهتمام بمناخ «داعش» أهم بكثير من تتبع أو محاولة فهم السلوك النفسي للانتحاري الداعشي الذي قد ينتمي لمحددات سلوكية وفكرية ونفسية مختلفة٬ وأقرب مثال في آخر عملية هو استغلال صلة القرابة٬ إضافة إلى أن خلفية الفاعلين متباينة٬ فكلهم يعملون في وظائف مرموقة أحدهم طبيب والآخر مهندس وثالث يعمل في شركة مستقرة٬ في حين أن رابط القرابة الذي عادة ما يشي بحمولة قبلية لها أعرافها وتقاليدها قد تهشم أمام تأثير الآيديولوجيا والفكر المنحرف٬ وهنا نقطة يجب الانتباه لها جيًدا٬ حيث تعمل الجماعات الإرهابية على تفتيت ليس مفهوم المواطنة فحسب بل الانتماءات كلها بدًءا بالدين فالقرابة فالعيش المشترك٬ ومن هنا يتطلب إعادة مكافحة الإرهاب فكرًيا وهو ملاحظة هذه السياقات التي يجب أن تشملها كل الحملات المضادة للإرهاب والتي للأسف حتى الآن لا تتجاوز مربع الإدانة (هل يعقل أن يصدر الإرهابيون عشرة مؤلفات عن شرعية قتل رجال الأمن ولا نجد رسالة علمية واحدة في جامعتنا تحلل الظاهرة؟).
الآن يحاول «داعش» بعد أن فقد حضوره في مناطق التوتر والحديث عن احتمال هجرات جماعية باتجاه ليبيا بعد أن تحّرك المجتمع الدولي بعامل ضغط ودفع سعودي عبر إنشاء التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب أن يعود لأسلوب «القاعدة» القديم وهو العودة إلى إرهاب الشبكات٬ بمعنى التجنيد ليس الفردي فقط عبر الإنترنت وإنما تجنيد مجموعات متقاربة٬ وساعد في ذلك ارتفاع منسوب فكر الأزمات التي تستقي منه الجماعات المتطرفة قوتها٬ فالحالة السياسية السائلة في المنطقة وتراجع المرجعيات الدينية عن التأثير٬ وغياب خطابات مضادة تحارب الإرهاب بلغته نفسها وأدواته ومنطقه٬ وعدم وجود حتى الآن خزان معرفي تحليلي لدراسة هذه الظاهرة المعقدة أسهم في تضخم العوامل المساعدة
لتبني خطاب متطرف ليس من المحبطين أو العاطلين عن العمل بل من شخصيات ذات مكانة اجتماعية ووظيفية مرموقة.
نحن اليوم أمام إرهاب ينتمي إلى طور «نفسي» جديد وردود فعل عمياء وعشوائية تعبر عن «هوية» قلقة وغير متصالحة مع ذاتها كما يمكن استخلاصه من سيرة الأخوين٬ وأيًضا كما يمكن تتبعه في الطور الثالث من الإرهاب الرقمي الذي يغيب فيه التطرف الديني بمعناه التقليدي الذي رسخته معتقدات الجماعات الإرهابية والذي يبدأ بتصور مختلف للعالم٬ دار الحرب وللآخر المرتد والمجتمع الجاهلي... إلخ.
انحدار غالبية الإرهابيين من الطبقة الوسطى يرفع من حظوظ البحث النفسي والعقائدي أكثر من الاقتصادي والاجتماعي٬ وبحسب فيلسوف الإرهاب الجديد الدكتور مارك سيغمان٬ وهو ضابط المخابرات السابق وحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة نيويورك وكذلك الماجستير٬ ومؤلف دراسة تاريخية صدرت في عام 2003 بعنوان «فهم شبكات الإرهاب»٬ فإنه يرى أن ثلثين من أعضاء التنظيمات الإرهابية يحملون شهادات جامعية٬ وأن الغالبية العظمى من الإرهابيين يتحدرون من الطبقة الوسطى٬ وقياداتهم من الطبقة المتوسطة العليا٬ وجاءوا من أسر ورعاية سليمة٬ وبالتالي فإن إلقاء اللوم في أزمة الإرهاب على الفقر أو الاقتصاد أو القضايا السياسية هو ترحيل للمشكلة وتضليل للرأي العام (معظم تلقي الإسلاميين لظاهرة الإرهاب لم يخرج من التحليل النمطي)٬ وبالتالي فإنه يؤكد مجدًدا على أن الفكر الإرهابي ينطلق من أرضية عقائدية نفسية.
مكمن الخطورة هو في تعقيد وصعوبة علاج المرحلة الجديدة من الإرهاب «الفردي» المرتبط بالهوية القلقة٬ حيث لا يمكن التنبؤ بتحول القناعة في ظل غياب الأسرة٬ وأيًضا الإعلام البديل لخطابات التطرف٬ كما أن مناخ العولمة وتلاشي الحدود حتى في ظل الاهتمام بالمسائل الأمنية سيلقي بظلاله على هذا النوع من الإرهاب٬ فالفرد «المأزوم» هو الضحية الناتجة من صراعات كبيرة قد تفقده معنى ذاته٬ وبالتالي ينجرف نحو التطرف بدافع الهوية القلقة المصابة بغضب عارم تجاه الذات والآخر حتى من دون أن ينخرط في تجربة دينية متطرفة أو يتعرف على مجموعات إرهابية٬ العالم الافتراضي حينها سيتحول إلى مصدر ممتاز لطبخ الفكرة وإنضاجها وتحويلها إلى فعل متى ما وجد الدافع الذي عادة ما يرتبط بوصوله وضعه النفسي للذروة٬ وهو الأمر الذي سيغيب معه أي دافع سياسي أو انتقامي محدد غير عزلة الهوية القلقة٬ وربما كانت تغريدة الأخ الأكبر تامرلان أنه لا يملك أي صديق أميركي طيلة فترة إقامته٬ مفتاًحا لفهم هذا الطور الجديد. هناك عادة ارتباط بين الأفكار العنفية وبين التطرف سياسًيا كما في هذه الحالة أو دينًيا كما في حالة خطاب «القاعدة» التقليدي٬ وبحسب الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي ستروس عالِم الاجتماع الشهير: «لا شيء يشبه الفكر الأسطوري٬ أكثر من الآيديولوجيا السياسية».
المملكة العربية السعودية أكبر من واجه الإرهاب بكل أشكاله منذ أن كانت إمارة في الدرعية وحتى الآن باعتبارها أكثر الدول العربية والإسلامية تأثًرا وتأثيًرا ليس باعتبارها قبلة دينية فحسب٬ وإنما علامة فارقة على المستوى الاقتصادي المنفتح بلا هوادة على الأسواق العالمية٬ والسياسة الخارجية المعتدلة والحذرة٬ والمجتمع المحافظ في مجمله الذي لم يعرف الانتماءات السياسية٬ إلا أنه مر بتحولات كثيرة كانت في مجملها تقلّبات لا واعية في أحضان الراديكالية منذ الجماعة المحتسبة وحتى «داعش» وبينهما الإسلام السياسي والإخوان والسرورية والتكفيريون والسلفيات بأنواعها٬ كما عرفت الأقليات الدينية مثل هذا الاختطاف الهوّياتي٬ إلا أن غالبية السعوديين في المجال العمومي يطمحون لاستمرار دولة الرفاه والاستقرار رغم كل العثرات وتقلّبات الظروف السياسية المختلفة والمخاطر المحدقة بدولة استعصت على التصنيفات الجاهزة وخالفت كل التوقعات٬ وما زال لديها الكثير لتقدمه٬ فالحرب ضد هذه الآفة كما قال الملك عبد الله٬ رحمه الله٬ هي حرب وجود وستدوم طويلاً.