محمد طيفوري من الرباط- الاقتصادية السعودية-
"إن مشاكل اليوم لم تعد مشاكل محلية، والحروب لم تعد محصورة في حدود معينة، والإرهاب لم تعد له جنسية وجواز سفر وبطاقة إقامة.. العولمة جعلت كل شيء معولما، وأسقطت كل الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية، وإذا لم تواجه كل الدول، خاصة القوية والقادرة منها، آفة الإرهاب يدا في يد، وتعمل على تجفيف منابعه والقضاء على مسبباته، فإن دماء كثيرة ستسيل، وعبوات عديدة ستنفجر، وأحزمة خطيرة ستقود الجاني والضحية إلى قبور بلا عد ولا حصر".
أياما وصدى هذه الكلمات- التي علّق بها الصحفي المغربي والصديق توفيق بوعشرين على "غزوة بروكسيل"- يتردد في ذهني محاطا بركام من التساؤلات التي لا تبحث عن إجابات بقدر ما ترمي انتخاب أدق الأسئلة أملا في حسن الاستفهام تجاه الموضوع وتأطيره؛ فالسؤال الجيد نصف الجواب كما يُقال.
حتى اللحظة يظهر أن كل محاولات قراءة ظاهرة داعش (الداعشية)، تظل على الرغم من الأطر المعتمدة في الفهم والمرجعيات الأساسية في التحليل، من لدن الخبراء غربيين وعرب على حد سواء متخصصين في الحركات المتطرفة، قاصرة على تقديم أطروحة منسجمة ومقنعة ومساعدة على استيعاب ما يُواجهه العالم أجمع. فاجتهادات هؤلاء الباحثين- وإن تعددت مداخل وزوايا مقارباتهم- تبقى عاجزة عن مسايرة التطورات المتلاحقة لهذه الظاهرة.
نتوقف على سبيل المثال عند سرعة التغيير في استراتيجيات التخطيط والعمل أو أسلوب الاستعراض والتحدي الذي تعتمدهما "شركة الإرهاب الدولي" داعش بأذرعها المنتشرة عبر العالم، لندرك بأن البحث عن إطار تفسيري جديد لفهم ما هو متعيِّن أمامنا ضرورة ملحة في ظل قصور كل المحاولات التي قُدمت حتى الآن.
نعم إن الأمر كذلك، فهذا الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية أوليفيه روا (Olivie Roy) يقول في توصيف الجيل الجديد من المتطرفين: "ليس منهم من سبق له الانتماء إلى جماعة إسلامية، كما أن لا أحد منهم سبق له النضال في صفوف حركة سياسية، بما فيها الحركات المناصرة للقضية الفلسطينية في أوروبا، ولا أحد منهم سبق له النهوض بمهام من قبيل: توزيع وجبات الإفطار في رمضان، أو إلقاء المواعظ في المساجد أو في الشارع. بل ولا أحد منهم سبق له متابعة دراسات دينية جادة في معاهد متخصصة، ولا أحد منهم أبدى اهتماما بالفقه الإسلامي أو بطبيعة الجهاد أو طبيعة الدولة الإسلامية حتى".
نُضيف إلى هذا التشخيص معطيات إحصائية تتعلق بقدرة داعش على الاختراق والاستقطاب أكثر من أي تنظيم سابق، فالأرقام تشير إلى تجاوز قوتها الاستقطابية- في مدة زمنية قياسية- لعتبة عشرة آلاف شاب مسلم في الأوساط الأوروبية؛ معظمهم من أصول مغاربية (المغرب، الجزائر، تونس، وليبيا). في حين أن دعوات الالتحاق ومناصرة الجهاد الأفغاني طيلة عقد من الزمن، مع كل ذلك الدعم المخصص لها أمريكيا وأوروبيا وعربيا ضد الاتحاد السوفياتي حينذاك، لم تتعد رقم 400 مجاهد أوروبي على مدى عشر سنوات.
يقودنا ما مضى إلى إحدى خلاصة أساسية تُفيد بأن جماعة داعش ليست تنظيما دينيا، ذات الخلاصة التي يرفض حتى الآن العديد من الباحثين الإقرار بها. في وقت يقر بها أبو بكر ناجي في كتابه "إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة"– بمنزلة دستور داعش- حين يقول: "فعلى فرض أننا نحتاج لمعركتنا الطويلة حتى تنتهي، كما نريد نصف مليون مجاهد، فإن إمكانية ضم هذا العدد من أمة المليار أسهل من ضمهم من شباب الحركة الإسلامية الملوث بشبهات مشايخ السوء، فشباب الأمة على ما فيهم من معاص أقرب للفطرة، وخبرات العقود السابقة أثبتت لنا ذلك".
فلو كان الرابطة الدينية أساس هذا التنظيم وإشاعته في الأرض غايته لعمل على استقطاب شباب ممن لهم باع في العلوم الدينية، وذوي الدرجات العليا في الدراسات الدينية. لكن ما يلاحظ- إضافة إلى ما أوردناه عن ناجي قبلا- أن مريدي داعش ووفق تحقيق نشرته إحدى الصحف العربية عن "وحدة انتحاري داعش 121" اعتمد في إعداده على تحليل معطيات استمارات التنظيم المسماة بـ"بيانات مجاهد" أنهم معظمهم– بنسبة تصل إلى 87%- أصحاب تكوين بسيط فيما يعلق بالعلوم الشرعية.
فالدين عند شركة الإرهاب العالمي إذن مجرد بيرق أو علامة تجارية للفت انتباه الجانحين والمتمردين وضحايا الاستبعاد الاجتماعي، ممن لم يتمكنوا من فرض ذواتهم داخل مجتمعاتهم. وهذا ما تحسن داعش استغلاله من خلال استقطاب هؤلاء، وإعادة "برمجتهم" بشكل يتلاءم ومخططاتها وأهدافها؛ مانحة إياهم فرصة لإثبات الذات وتحقيق الكينونة والوجود (بأعمال التفجير والتخريب والعنف...) وهو أمر افتقدوه في أوساط عيشهم، حيث تشير السير الذاتية لانتحاريي باريس وبروكسيل مثلا إلى كونهم منحرفين وأصحاب سوابق وداوى الحق العام (السرقة، المخدرات...).
ويحضر الدين كذلك في لحظات الشحن والتحفيز بغية التنفيذ بلي أعناق النصوص واعتماد تفاسير وتأويلات تتوافق ومرامي هؤلاء باستحضار نصوص وطمس أخرى وإخراج لثالث عن سياق وأسباب نزولها.. وما إلى ذلك مما يبدع فيه مديرو هذه الشركة أيما ابتداع.
يكشف هذا المعطى العلة وراء تجاهل استهداف الشباب المتخصص في العلوم الدينية ممن سيحاجون الخلفية وحاشيته حول ما يطلبون تنفيذه من دمار وفساد وإهلاك للحرث والنسل. وتكشف في وجهها الآخر على أن داعش تمكنت من "صناعة" جيل جديد من المتطرفين ممن انتشلتهم في مستنقعات "الرذيلة" مانحة إياها فرصة العمر من أجل "التطهر"، وعرضا مغريا قوامه صك غفران عن زلات الماضي مقابل تقديم النفس قربانا للخليفة ووفاء بالبيعة الكبرى التي في عنق أعضاء التنظيم له. جيل من الانتحاريين ممن تعرضوا لغسيل الأدمغة وأعيدت برمجتهم كأنهم حواسيب آلية في ظرف قياسي بعيدا عن الرصد والمراقبة، طور وسائل وتقنيات سيبقى خطرها قائما على البشرية لسنوات قادمة.
وتبقى الحيرة سيدة الموقف تجاه ما يواجهنا، بل أجدني مضطرا إلى الاتفاق مع السيدة ريفوليت دالون (Revanlt Dallones) عند قولها إن الالتباس يراود إيماننا بكون قاطرة التاريخ تجر البشرية دائما نحو الأفضل. فهذا الإيمان بالتقدم وبأسطورة التاريخ الموجه نحو مستقبل مشرق انهار كليا، فالمستقبل يلفه الشك وكثير من الغموض.