ثمة توجّه لمواجهة المد التعصبي والجامح الذي يعصف في المجتمعات العربية، وهو ما يمكن وصفه بتنويعات مختلفة من «الداعشية الكامنة»، وهي التي يتشارك أكثرها تطرفاً مع «الداعشية المتوحشة» في الكثير من البنيات الفكرية والقناعات، لكن تختلف عنها في أنها لم يتم تفعيلها عنفياً وبالسلاح.
«داعش» لم يأتِ من فراغ، بل هو حصيلة ثقافة هوياتية اجتماعية ودينية وسياسية سيطرت على الفضاء العام خلال نصف القرن الماضي على الأقل، واعتاشت على مناخات تردٍّ ذريع ولّدها فشل الدولة في منطقتنا، والتدخلات والحروب الخارجية العسكرية التي لم تنقطع.
تتوقف هذه الحروف عند العامل الأول، وهو الثقافة الدينية والاجتماعية المحافظة التي اختطفت الجامع والمدرسة والإعلام، وأسست لمعيارية دينية صارمة في تحديد الصواب والخطأ، وترسيم مكان هذا الفرد أو ذاك في المجتمع ومنحه أو حرمانه الموقع أو الاحترام تبعاً لتراتبيات وأفضليات دينية وتدينية. ولا يعني التركيز هنا على هذا العامل، التقليل من بقية العوامل الأخرى، وتحديداً فشل دولة الداخل وتغول دولة الخارج، ذلك أن المساحة المتاحة هنا لا تسمح بنقاش كل شيء.
انخرطت الثقافة الدينية الجمعية في تصنيع «داعشية كامنة» لا يمكن إنكارها تحكمت في المجتمعات، وأطبقت قبضتها بالتدرج على معظم مساحات الفضاء العام. وتعود الجذور الأولى لهذه «الداعشية الكامنة» إلى زمن انهيار الدعوات الإصلاحية والانفتاحية لتيار الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي لمصلحة صعود سلفية حسن البنا وانغلاقه ثم سيد قطب وبعدهما التيارات السلفية برمتها. تدعمت تلك «الداعشية» الكامنة المتصاعدة بعيداً من المؤسسة الرسمية. في المحصلة وبإيجاز قد لا ينجو من ابتسار، تنافست الأنظمة السياسية والمعارضات الإسلاموية ضد بعضها بعضاً في تكريس آليات تديين المجال العام في معظم البلدان، وإن بدرجات متفاوتة. وانعكست أشد تجليات ذلك التنافس تأثيراً وتدميراً على طبيعة الصراع على الشرعية السياسية وتعريفه، وتديين الإعلام ومناهج التعليم. أدى ذلك كله إلى تسييد الخطابات الدينية بأطيافها المختلفة، وتحويلها إلى الناظم الأساس للعقل الجمعي والمنظومة المعيارية التي يفصل على مقاسها كثير من القوانين التي يتم استخدامها لتقويم الممارسات والأخلاق العامة والأعراف.
المعنى التطبيقي لسيادة الخطابات الدينية، أن الفرد في الدولة العربية صارت له شخصيتان اعتباريتان تتصادمان في كثير من الأحيان: الشخصية الأولى دينية وهي مُعرفة بمدى تدينه والتزامه، والشخصية الثانية قانونية معرفة بكونه مواطناً وفق الدستور. وقد طغى التعريف الأول على التعريف الثاني إلى درجة مُذهلة، حتى صار «الفرد المتدين» هو المعيار والمسطرة، وهو «أفضل» من «غير المتدين» من دون نقاش. ولو كانت هذه التفاضلية محصورة في حيز آراء الأفراد ببعضهم بعضاً، لما كانت لها أهمية، لكنها تفاضلية ظلّت تتضخم وتكبر حتى حشرت التعريف القانوني للفرد في الزاوية، ولأنها أعلت من قيمة «التدين» في المجتمع وأخرجتها من حيز الممارسة الفردية إلى المعيارية المجتمعية التي تتماس مع النظرة القانونية. الاصطدام الكبير بين النظرتين والتعريفين عندما يخرج التعريف الأول (التديني) إلى الحيز العام، يأتي من تناقضه مع فكرة الدولة المواطنية الحديثة التي تقوم على اعتبار كل الأفراد مواطنين متساوين وفق الدستور، لهم حقوق وعليهم واجبات مواطنة وليست دينية. التعريف الأساس لهذا الفرد هو «المواطنة».
الأطروحة الأساس التي يرتكز عليها أنصار كل دعوة دينية في أي مجتمع في العالم، أن الالتزام الديني يكرس الأخلاق الحميدة ويضاعف من الخير ويقلل من الشرور. لكن هذه الأطروحة غير متماسكة، لا من ناحية نظرية ولا من ناحية إحصائية. على سبيل المثل، ولتقريب الصورة، تعتبر البلدان العربية والمسلمة أشد المجتمعات تديناً في العالم، إضافة إلى مجتمعات جنوب الصحراء الأفريقية. لكن كثيراً من هذه البلدان مثل أفغانستان وإيران ومصر مثلاً، تتصدر دول العالم في كثير من الأخلاقيات السيئة مثل التحرش الجنسي بالنساء، أو عدم احترام النظام أو النظافة. بينما كثير من البلدان التي تتصف بنسب تدين منخفضة ونسب إلحاد عالية تقل فيها نسب التحرش بالنساء، ويُحترم فيها النظام والنظافة. على ذلك، ليست هناك علاقة آلية بين الأخلاق ومدى الالتزام الديني، على ما تطرحه الحركات الدينية أياً كانت.
يطرح ذلك كله جملة من الحقائق والتحديات التي يجب أن تقض مضاجع الجميع، أولها وجوب التخلص من التعسف الأخلاقي الكبير في ربط علاقة قوية وشرطية بين التدين والوطنية، كما تم الترويج في المخيلة العامة خلال سنوات المد الإسلاموي الحركي في المنطقة، معززاً بطريقة غير مباشرة بالخطاب الرسمي. فهنا اشتغل الخطاب الديني بتنويعاته المختلفة في شكل مباشر أو غير مباشر على التشكيك العميق في وطنية وأخلاقية ومهنية وإخلاص غير المتدينين وفي تحلّيهم بأي من القيم الإيجابية، وحصر تلك القيم بالمتدينين فقط. والمقصود بنزع الوطنية هنا ليس فقط التخوين والاتهام بالعمالة للغرب والخارج. بل الأخطر من ذلك كله في هذا السياق وفي مسألة نزع الوطنية، عدم الإقرار الضمني بأن هؤلاء مواطنون يتمتعون بكامل الحقوق.
السؤال والتحدي الدائم والمُتجدد الذي يجب أن يواجهه الجميع، سواء في الحكم أو المعارضة، أو في أوساط المجتمع في شكل عام، يتجسدان في مفهوم المساواة المطلقة بين المواطنين بغض النظر عن أي معطى آخر، وهو المفهوم المُنتظم في إطار الدولة المدنية التي لا تهتم بمدى تديين الأفراد، بل بمنحهم حقوقهم ومطالبتهم بالتزاماتهم وفق الدستور.
الدولة المدنية القائمة على المساواة في المواطنة عليها أن تحمي حق مواطنيها في التمتع بحرياتهم الفردية والمسلكية، وليس فقط حرياتهم السياسية. وشأن الدولة هو أن توفر المناخ الصحي في الحياة في شكل طبيعي ومن دون قمع. ولا فائدة هنا من المناكفة الشهيرة التي تحوم حول «حدود الحرية» وأنها غير مطلقة، فهذا من البداهات الاجتماعية، ذلك أنه في أكثر البلدان انفتاحاً في الغرب لا يمكن أحداً أن يمارس حريته الفردية في الخروج عارياً إلى الشارع.
خالد الحروب- الحياة السعودية-