هل سمع أحد عن (داعش) المتوحشة أنها ذكرت أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يعفو عمن أراد قتله، أو أن خُلُقَه القرآن، أو أنه قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟!
الحق بيِّن، والباطل بيِّن، فلا يستطيع أحد أن يُشوِّش على الحق، أو يُحسِّن الباطل، إلا باللجوء إلى تلبيس إبليس، فيعمد إلى الحق ويخلطه بالباطل، ويعمد إلى الباطل ويستدل له بما لا يصح أن يكون دليلا، ومعلوم أن الدليل الصحيح لا يمكن أن يدل على معنى باطل، لكن آفة القوم من سوء الفهم، أو سوء القصد، أحدهما أو كلاهما. وهذا المسلك وإن كان هو طريقة اليهود، كما في قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، فهو كذلك سبيل من اتَّبَعَهم من هذه الأمة، الذين يسيرون على سَنَنهم -كما أخبر النبي، عليه الصلاة والسلام- شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلوه تبعا لهم.
ومن صور التلبيس: دعوى (داعش) أنهم يستدلون على قطع الرؤوس، وإدارة التوحش، بحديث (جئتكم بالذبح)، وهم يهدفون من ذلك ترويج باطلهم من جهة، وتنفير الناس من الإسلام من جهة أخرى. والتلبيس الآخر نُشِر في إحدى صحف بلادنا، لكاتب يدعي أن إجرام داعش له تشريع صحيح في منهج السلف الصالح، مستشهدا بقصة قتل الجعد بن درهم. وكان لي مندوحة في الإعراض عن ذلك التلبيس، الذي لا قيمة له في ميزان البحث العلمي المنصف، لكون الحق الذي في الكتاب والسنة والفطرة السليمة يدمغ هذا الباطل ويُزهقه. لكن خشية من أن ينخدع به قُصَّار النظر، ومن هو بعيد عن التخصص الشرعي، فإني أقول باختصار:
أما التلبيس الأول: فجوابه أن يقال، كيف تُختزل السيرة النبوية المطهرة، التي ملأت الأرض عدلا ورحمة وسلاما، كما في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وجاءت الأحاديث الكثيرة المتواترة التي تدل على أن رسولنا، عليه الصلاة والسلام، يعفو عمن ظلمه، ويدفع بالتي هي أحسن، وأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان يُعرض عن أذى من آذاه، متوكلا على الله، استجابة لأمر الله: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، وكان يقول للناس: (قولوا لا إله الله تفلحوا)، كل هذا وغيره من الخُلُق العظيم الذي اتصف به نبينا، عليه الصلاة والسلام، تم كتمه، واختزلت سيرته بحديث واحد لم يقله نبينا، عليه الصلاة والسلام، إلا مرة واحدة، خلال 23 سنة -على فرض صحته- وله سياق معين، وقاله لطائفة معينة، آذوه، ولم يقله لعموم المخالفين، فضلا عن عموم الناس، قال لهم هذه الكلمة التي تعني المواجهة، وأنه سينتقم منهم، ليدفعهم عن نفسه، لا سيما وكان بمكة مستضعفا، ولم يؤمر بالجهاد، ولما قوي وشُرع الجهاد، لم يقطع الرؤوس، ولم يُعلق المشانق، وإنما قال لمن آذاه في مكة عندما فتحها: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). وفعل النبي، عليه الصلاة والسلام، يُبَيِّن المراد من قوله، وهكذا فهم الصحابة، رضي الله عنهم، لكن الدواعش لا علاقة لهم بفهم النبي، عليه الصلاة والسلام، ولا فهم صحابته، وإنما هم مُكلفون من أعداء الإسلام بإرهاب المسلمين، فهم أصحاب مشروع سياسي عدواني، وإقحامهم -من قِبَلِ صانعيهم- بالاستدلال الشرعي هو لذر الرماد في العيون، ليكون طُعما للمتحمسين بجهل، ومبررا لطعن المناوئين للإسلام ومنهج السلف، وإلا فالشريعة في واد، وداعش في واد آخر، ليس هناك أي رابط بين الشريعة وداعش، ولذلك فهم يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، كما هو منهج الخوارج، فأين ذلك من سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ وبهذا يتضح أنه لا دليل في ذلك للدواعش ومن صَنَعَهم من أعداء الإسلام، الذين لا يبحثون إلا ما يناسب دمويتهم، وأنفسهم الشريرة، ولو بِلَيِّ أعناق النصوص، واجتزائها، وإخراجها من سياقها، وكتم الحق الذي يزهق باطلهم؟
فهل سمع أحد عن (داعش) المتوحشة، أنها ذكرت أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يعفو عمن أراد قتله، أو أن خُلُقَه القرآن، أو أنه قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟! هذا لا يوجد في خطاباتهم أبدا، لأن ذلك يهدم منهجهم من أساسه، ولذلك هم يعتقدون ثم يستدلون، وليس العكس، يعتقدون العنف، ويبحثون عن أي دليل يحرفونه ليخدعوا به من يُحسن الظن بهم، مع أن أي دليل صحيح يستدلون به فإنه عند التأمل دليل عليهم.
وأما التلبيس الثاني: فجوابه أن قصة الجعد بن درهم مع خالد القسري، مشهورة في كتب أهل العلم، وهي مختلف في صحة سندها، لكن معناها صحيح، لأن الجعد زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يُكلم موسى تكليما، وهذا تكذيب لكلام الله تعالى، وطعن في الدين، ومفارقة للجماعة، وقد أفتى علماء التابعين وليّ أمر المسلمين في العراق بالحكم الشرعي، فنفّذه وليّ الأمر، فما الإشكال في ذلك؟
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري ومسلم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة معلومة، والذي ينفذ الأحكام الشرعية هو ولي الأمر صاحب البيعة الشرعية.
ولو أن شخصا آخر في زماننا فعل ما فعل الجعد بن درهم، ورُفع أمره لولي الأمر، لنفذ فيه ولي الأمر الحكم الشرعي، فما علاقة ذلك بما يفعله قطاع الطرق، وفرق الموت، وميليشيات أعداء الإسلام؟ وكيف يقاس تنفيذ الأحكام الشرعية من قبل ولي الأمر صاحب البيعة الشرعية، بمن يجعل تنفيذها لقطاع الطرق، وللأحزاب ذات البيعة الجاهلية الباطلة؟ هذا على فرض أنهم ينفذون أحكاما شرعية، والواقع أنهم ينفذون أحكاما شيطانية، لأنهم ينفذون ذلك على المسلمين، ولا علاقة لهم بالأحكام الشرعية.
ولذلك فهذا التلبيس لا ينطلي على أهل الحق، فهم يعرفون أن (داعش) نبتة لأعداء الإسلام، لا علاقة لمنهج السلف الصالح بها، وانظروا من يدعمها، ومن يحاربها.
وصاحب هذا التلبيس -هداه الله- لم ير في منهج السلف إلا قصة الجعد بن درهم، اختزل منهج السلف الصالح بهذه القصة، كما فعل الدواعش الذين اختزلوا أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- وسيرته بحديث (جئتكم بالذبح)، مع أنه لا دليل له في هذه القصة كما تقدم، كما لا دليل لداعش في استدلالهم الخاطئ بالحديث. ولم ير -صاحب التلبيس أيضا- فيمن شَنَق حاكم العراق، ومن نَصَب المشانق لأهل السنة في إيران، أي علاقة بداعش!! فما تفسير ذلك؟! وإذا كان الكاتب قال عن نفسه إنه ليس سلفيا، فهذا ليس مبررا له في الطعن في منهج السلف الصالح.
لا أدري ما مشكلة (بعض) الكتاب -هداهم الله- مع المنهج الشرعي، يُلصقون به وبالعلماء كل تجاوز، ويصفونه -على سبيل التنقص- بالخطاب الوعظي، وكأن الوعظ عيب، وما علموا أن القرآن موعظة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخول أصحابه بالموعظة، وقال العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب..)، فالواعظ هنا هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلماذا التنقص من الوعظ والوعاظ، ما دام أنهم يعظون بالكتاب والسنة؟
ولماذا الانبهار بالكلام الفلسفي والكلمات المعقدة التي لا تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، أوَكلما كانت العبارة أشد تعقيدا كانوا أشد احتفاء بها!! أيظنون أن ذلك يعد تميزا، وأنهم النُخَب، ومن عداهم جمهور ساذج؟ هذا من الكِبر الذي ما هم ببالغيه، فنعوذ بالله من همز الشيطان ونفخه. فليسوا أبلغ من رسول الله وصحابته الذين ما حُفظ عنهم إلا ما يفهمه الكبار والصغار، والعلماء ورعاء الشاة. ولهذا فقد أعلن جمع من أساطين المتفلسفة ندمهم على الخوض فيها، قال ابن العربي عن شيخه أبي حامد الغزالي: شيخنا أبوحامد ابتلع الفلسفة فأراد أن يتقيأها فما استطاع. وقال الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، ومن جرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي. وقال الجويني: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور.
أحمد الرضيمان- الوطن السعودية-