أحمد مصطفى- الوطن العمانية-
”بغض النظر عن التسميات، دون إغفال أهميتها، لن يتوقف الإرهاب بانتصارات تحالفات مكافحة الإرهاب على داعش وقد لا يتفرع التنظيم إلى تكوينات عنقودية كما حدث مع القاعدة في السابق لكن هؤلاء الذين اصبحت حياتهم كلها هكذا يصعب أن تتوقع ان ينصلح حالهم ولا بكل جهود المناصحة والاستتابة. والأرجح ان يعود هؤلاء ليتركزوا في موقع جديد،”
من الأسئلة المنطقية التي تطرح في الأيام الأخيرة، وسط تقدم القوات العراقية في الموصل والإعلان عن تحريرها تماما من داعش وتقدم القوات الكردية والعربية في الرقة ودحر داعش واستعادة الجيش العربي السوري لعشرات الآف الكيلومترات وتحرير من البادية السورية التي كانت تحت سيطرة داعش وتحرير الجيش الوطني الليبي كامل بنغازي من داعش، سؤال بسيط ومثير في آن: أين داعش؟. تعود بساطة السؤال إلى ما هو معلن من القوات التي تقاتل داعش واكتساحها مناطق سيطرتها وكأنما داعش لم تكن ذلك “البعبع” الذي حال دون قدرة الجيوش على استعادة مدن ومناطق بكاملها من التنظيم الإرهابي. أما المثير، فهو أن كل تلك الانتصارات العسكرية في العراق وسوريا وحتى ليبيا لم تكشف عن عناصر داعش التي قتلت فيها، ناهيك عن أسر أي عنصر من عناصر التنظيم الإرهابي الذي تحالفت أكثر من 40 دولة من دول العالم لمكافحته! فحقا، أين داعش؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال العودة لتفسيرات كثيرة، بعضها تآمري، لحكاية داعش تلك من أولها قبل نحو أربع سنوات. الأكثر شططا طبعا انه لا يوجد شيء اسمه داعش، وأن تلك الجماعات الإرهابية التي سيطرت على الرقة ثم الموصل هي مجرد مجموعات منشقة عن تنظيمات إرهابية اخرى مرتبطة بالقاعدة أو غيرها حاول تجميعها من له مصلحة ما في وجود مثل هذا التنظيم ودعائية إقامة “دولة الخلافة”. طبعا بعض تلك التفسيرات تحمل قدرا من الصحة، إلا أن التفسير الجازم لظهور التنظيم أمر صعب مهما جهد الباحثون والمحللون. صحيح أن عناصر داعش كانوا في النصرة وجيش الإسلام ومقاتلين اجانب آخرين جاءوا إلى سوريا عبر تركيا، وصحيح ايضا أن هناك قوى اقليمية ودولية كان لها مصلحة في بروز تنظيم إرهابي كهذا، وصحيح أن … لكن كل هذا من باب التحليل أكثر منه معلومة دقيقة عن تكوين التنظيم وبروزه. لذا سيصعب ايضا فهم ان تنتصر عليه كل تلك الجيوش دون أن نرى قتلى التنظيم أو اسراه. بالضبط كما لم نر ميلاده إلا بخطبة للبغدادي يعلم الله من أين وكيف (فقد اصبح المرء يشك في كل ما يتعلق بهذه التنظيمات نتيجة ما نرى من تسريبات فيما بعد تكشف ما لم يكن ممكنا تخيله من قبل).
المهم أنه بالتأكيد هناك داعش، ويصعب الانسياق وراء التفسير التآمري بأن داعش “مجرد كذبة”، وأنه توسع في سوريا والعراق وبايعته تنظيمات وجماعات أخرى في أفريقيا وآسيا. وواضح أيضا أن التنظيم يتعرض لضربات قاسية في أماكن نفوذه وربما يكون المهم هنا أن نحاول الإجابة عن السؤال بعد إعادة صياغته: إلى أين داعش؟ قد تكون الإجابة السريعة أن الإرهابيين الذين فروا من الموصل انتقلوا إلى سوريا وأن من يفرون من الرقة يذهبون إلى البادية. وربما ايضا أن كثيرا من هؤلاء الإرهابيين يعودون إلى حيث أتوا: إلى تركيا، ومنها إلى ليبيا ثم بلدانهم كتونس وغيرها. كل هذا ممكن، لكن مرة أخرى لو سحبنا حرف الجر واستفهام المكان في السؤال “إلى أين” لما هو أبعد قليلا وفكرنا في “أين” بما هو أوسع من مكان فهنا يمكن التفكر والتدبر. أغلب الظن ان كثيرا من مقاتلي داعش سيعودون إلى تنظيماتهم الأخرى مع انهيار التنظيم، وبما اننا لم نر قتلى واسرى منهم فهذا يعني أن هؤلاء الآلاف من الإرهابيين سيعودون مجددا ربما في بقاع أخرى وربما في شكل تنظيمات أخرى وربما بدعم وتمويل مؤيدين حاليين وغيرهم مستجدين لهم مصالح جديدة في بروز الإرهابيين بتلك الأشكال الجديدة وفي المناطق الجديدة.
ربما تجوز المقارنة هنا بما حدث مع تنظيم القاعدة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وكان التنظيم خرج من جماعات المسلحين المؤدلجين الذين سموا “مجاهدين” في أفغانستان. وحين قرر الراعي الرئيسي للتنظيم أنه استنفد مهمته في محاربة السوفييت واخراجهم من كابول وبدأت الضربات تتوالى على التنظيم تشظى إلى تنظيمات متناثرة من “القاعدة في بلاد المغرب” إلى “القاعدة في شبه الجزيرة” والقاعدة في العراق الزرقاوي والقاعدة في سوريا. النصرة (الآن تحرير الشام). ومع تفكك العراق والحرب في سوريا تشظت شظايا القاعدة أكثر ليخرج منها تنظيم داعش ويعلن عن دولة الخلافة في 2014. بالطبع تختلف دورات التشظي واللملمة من أفغانستان إلى العراق وسوريا وغيرها، لكن الخط الأساسي واحد: موارد من الإرهابيين والمتطرفين الجاهزين ليكونوا إرهابيين ومروجين وواعظين وداعمين وممولين لهم أغراضهم التي لا سبيل إليها إلا بالعنف الدموي والإرهاب المتسربل بالدين.
بغض النظر عن التسميات، دون إغفال أهميتها، لن يتوقف الإرهاب بانتصارات تحالفات مكافحة الإرهاب على داعش وقد لا يتفرع التنظيم إلى تكوينات عنقودية كما حدث مع القاعدة في السابق لكن هؤلاء الذين اصبحت حياتهم كلها هكذا يصعب أن تتوقع ان ينصلح حالهم ولا بكل جهود المناصحة والاستتابة. والأرجح ان يعود هؤلاء ليتركزوا في موقع جديد، وربما باسم تنظيم جديد وقد يأتون بممارسات ابشع مما اتت بها داعش التي تجاوزت القاعدة بإرهاب الذبح والحرق الحي. ببساطة، طالما هناك من يستفيد من وجود هذا الإرهاب، وبالتالي يروج له ويدعمه أو على الأقل يبرر أفعاله، فلا تسأل أين داعش؟ ولا إلى أين داعش؟ بل، ماذا بعد داعش؟ وأين؟