محمد السعيدي- الوطن السعودية-
الأزمة الكبرى التي تعاني منها جميع المذاهب المنتسبة للإسلام ما خلا المنهج السلفي، هي أزمة الدليل من الكتاب والسنة على ما يأمرون به المسلم من عبادات لله تعالى على سبيل الإلزام أو الاستحباب، وما يرون أنه مطلوباً من العبد من معتقدات في الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وفي عالم الغيب والروح ومصادر التلقي عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإذا محَّصنا أسباب الخلاف في كل ذلك بين المنهج السلفي وسائر المذاهب المنتسبة للإسلام سنخلص منها جميعاً إلى سبب واحد وهو الدليل والدليل وحده.
فحقيقة الأمر: أن جميع المذاهب لا تمتلك الدليل من الكتاب والسنة إلا في المسائل المتفق عليها مع السلفية، أما سائر مسائل الخلاف فلا دليل لديهم على أي مسألة منها كبرت أم صغرت.
وعلماء تلك المذاهب التي يصفها السلفيون بالبدعية، أعْرف الناس بهذه القضية ليس من اليوم، بل من أزمان روادهم الأولين، لذلك تجدهم يلجؤون للتخلص من هذا الإشكال الكبير إلى العديد من الحيل التي يخادعون بها أنفسهم، ويخادعون بها عوامهم، تختلف باختلاف تلك المذاهب؛ فمنهم من يلجؤون إلى دعوى المجاز في كل آية تخالف مذهبهم كما يفعل المعتزلة والأشاعرة والماتوريدية مع آيات صفات الله عز وجل والقضاء والقدر؛ وأحياناً بتوهين درجة النص النبوي عن مكانته كي يقصر عن بلوغ موضع الاستدلال، وذلك كدعوى المعتزلة أيضا والأشاعرة: أن خبر الواحد لا يصح الاستدلال به في العقائد، فإذا جوبهوا بخبر متواتر أنكروا تواتره وزعموا أنه ما زال آحاداً.
ومنهم من يلجؤون إلى التوسع في مفهوم البدعة الحسنة كي يُدخلوا فيها جميع المخترعات التي يخترعونها في الدين، بل ويُبْقُوا الباب مفتوحا للولوج بما يمكن أن تتمخض عنه الأذهان من بدع مخترعة في الدين.
ومنهم من يلجؤون إلى ما هو أعظم من التأويل وهو التفسير الباطني، فيزعمون أن للَّفظ القرآني معنى ظاهراً وآخر باطناً، وأن المعنى الباطن هو مراد الله سبحانه وتعالى، فيخدعون أتباعهم بهذا، دون أن يقدموا لهم دليلاً على أن مراد الله هو المعنى الباطن دون الظاهر، ثم لا يستطيعون أن يقدموا دليلاً على تخصيص معنى واحد مراد من المعاني الباطنة التي يمكن إلباس المعاني بها؛ وما مضى نشاهده عند الصوفية بمختلف طرقهم.
ومنهم من يضطرون إلى استيراد أو اختراع دليل جديد فيجعلونه بمثابة الكتاب والسنة ويستدلون به على أصول الدين وفروعه، كالصوفية في مسألة الكشف والإلهام، والشيعة الذين يشتغلون بما ينسبونه للأئمة من أقوال ويجعلون لهم العصمة حتى تكون لأقوالهم الحجية نفسها التي للكتاب والسنة.
وهناك وسائل أخرى غير هذه يستخدمها أرباب سائر المذاهب غير السلفية للفرار من مأزق الدليل.
أما المنهج السلفي فإنه لا يعدو الدليل من الوحيين في أمور العبادات والعقائد ولا يتنازل عنه مطلقاً.
ويمكن القول بجزم: إن الغضب الذي تعلنه أكثر المذاهب من السلفية سببه مطالبة السلفيين مخالفيهم بالدليل وعجز الجميع عنه.
فحقيقة الحملات الموجهة ضد السلفية والتي يشارك فيها الجميع رغم تباين اتجاهاتهم ليس سببها ما يزعمونه من محاربة جذور الفكر الإرهابي أو السعي إلى وحدة الصف واتفاق الكلمة؛ ليس الأمر كذلك غالبا؛ بل الأمر أنهم سئموا من كثرة مطالبات السلفيين إياهم بالأدلة من الوحيين على مخترعاتهم في العقيدة والعبادات، وعَضُّوا أصابعهم عجزاً منهم عن إبداء ما طولبوا به، فأخذوا يتواطؤون على مثل تلك التهم والأراجيف فراراً من أصل المطالبة.
الخلاصة: أن الجميع يريد أن يخترع في الدين كيف شاء ما بين محرِّف ومعطل دون أن يسألهم أحد عن أصل ما جاؤوا به من تحريف وتعطيل، هذه هي حقيقة المشكلة بين السلفيين وغيرهم من أصحاب المذاهب الإسلامية، والذين نراهم في هذه السنوات الأخيرة هبوا هبة واحدة في مناهضة السلفية بزعمهم، وشمرت لذلك جامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية والإعلامية والبحثية.
نعم أؤكد على أن لمَّ الشمل ومكافحة الإرهاب ليس هو المقصود قطعاً ودليل ذلك أمور، منها: أن كل الناشطين في مناهضة السلفية في وقتنا الحاضر لم يكتبوا كتاباً واحداً فيما بلغني في الرد على الجماعات التكفيرية، وقصارى جهدهم في تأليف كتب يردون فيها على المنهج السلفي وينسبون إليه التكفير زوراً وعدوانا، فحقيقة مهمتهم ليست الرد على التكفيريين؛ بل استحضار الأدلة للشباب على أن التكفير هو المنهج السلفي، لذا فإن حقيقة ما يفعلونه إنما هو دعم للفكر التكفيري وليس مواجهة له؛ أما المواجهة الحقيقية للفكر التكفيري فهي تأتي اليوم على أيدي علماء ودعاة السلفية الذين كتبوا في كل أماكن تواجدهم المؤلفات والمطويات وسجلوا البرامج والمقاطع في مواجهة هذا الفكر.
وعند النظر لواقع المذاهب فإنه لا يوجد فكر باستطاعته مواجهة التكفير سوى المنهج السلفي، وذلك لما يملكه هذا المنهج من سلطة الدليل التي تفتقر إليها المذاهب الأخرى، لأن من محاسن المنهج حين يستمد قوته من الدليل السماوي استحالة التناقض في حقه، وتوافقه مع قواعد الشرع وأصوله ومقاصده، وعدم تعارضه مع مقتضيات العقول الراجحات، وعناصر القوة هذه مفقودة بدرجات متفاوتة لدى جميع المذاهب الأخرى، لذلك فإن ردود أرباب هذه المذاهب على الفكر التكفيري سيكون مكانها من الضعف باعتبار قربها أو بعدها من أصول السلف، فكلما كان هذا المذهب أقرب إليها كان أقدر في مواجهة هذا الفكر ممن هو أبعد عنها منه.
أما من يجابهون السلفية بحجة جمع كلمة المسلمين فلا أدل على بطلان دعواهم من النظرة التاريخية لبلدانهم وكيف كانت قبل نزول المنهج السلفي بساحتهم ليجد الممعن: أن الأمر من وحدة الصف والتئام الجماعة لم يكن على أحسن حال حتى يقال إن السلفية قد فرقت الناس، بل إن الناس كانوا قبل انتشار المنهج السلفي في العالم الإسلامي يعانون مما هو أكبر من الفرقة وأعني به الاحتلال الأجنبي لسائر بلادهم، وقد كان ظهور السلفية في جميع بلاد المسلمين مقدمة ضرورية للثورة على المستعمر؛ فدعوى محاربة السلفية من أجل رأب الصدع وحرب التطرف ولم الشمل وما شاكلها من الشعارات ليست سوى ذرائع للهروب من سلطة الدليل التي يفتقر إليها الجميع ولا يملكها إلا السلفيون.
لذلك فإن هذه الحرب إذا عرف السلفيون مكمن قوتهم فيها وتسلحوا به بشكل أقوى مما هم عليه الآن فإن السنوات القادمة ستشاهد إقبالاً في سائر البلاد التي يسكنها المسلمون لم تشاهده في السنوات الماضية، لأن الدليل له وقعه الذي لا يضارعه شيء على القلوب والجوارح، وفطرة المسلم تجعله منساقا دائما إلى قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذان هما اللفظان اللذان تترنح أمامهما كل بدعة، وصدق الله حين قال: ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون﴾ [الأعراف: 3]
وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).