الاقتصادية السعودية-
إن توفرت للأطباء والمختصين بعلم النفس فرصة للسفر إلى المناطق المكتظة بالجماعات المتطرفة، لتمكنوا من الحصول على كم هائل من المعلومات التي من خلالها يتم إعداد دراسات وتأليف كتب خاصة تتعمق في نفسيات الأعضاء المنضمين، والأسباب التي دفعتهم لمثل تلك القرارات وتداعياتها.
فالأعضاء المنتمون لتنظيم داعش الذي كسب هالة دعائية وإقبالاً غرائبياً أخيرا، قادمون من خلفيات وأوطان مختلفة، ما بين خليجيين وعرب وأوروبيين من معتنقي الإسلام الجدد وآخرون مهاجرون من الجيل الثالث أو الرابع.
ويبقى التساؤل عن الأسباب التي تدفع بهم للاقتناع بحيثيات ومبادئ تنظيم يرتكب القتل والنهب والسبي.
أيعقل أن يكون غالبية المتهافتين على مناطق ينعدم فيها الأمان ويكثر القتل بسبب اضطراب نفسي أو اجتماعي، وبحث عن الأمان الذي يشعر به بسبب الانضمام إلى الجماعة؟
هرمون "الأوكسيتوسين"
يعلل ذلك البروفيسور إيان روبرتسون المختص بعلم النفس: "حين يتآزر أناس مع بعض في جماعة ما، فإن معدل هرمون الأوكسيتوسين يرتفع في الدم، إلا أن ذلك يؤدي إلى قابلية أكبر لشيطنة الآخر الخارج عن هذه الجماعة. وهذه المفارقة تظهر من ناحية العطاء المقدم للجماعة التي ينتمي إليها، في الوقت الذي من السهل فيه تخدير التعاطف مع من لا ينتمي للجماعة واعتبارهم مجرد أشياء مجردة. واقتراف أفعال شنيعة تجاه هؤلاء يعد أمراً عادياً لأنهم لا يعتبرون بشراً".
هناك من يتوق إلى تجمع وإن كان تدميرياً، واللجوء إلى ملاذ يأوي ويحتوي شخصيات منبوذة تحمل بداخلها كبتاً أو غضباً أو خيبة. مسببات الانضمام لجماعات متطرفة لا حصر لها، كعدم تقبل الآخر في المجتمع، أو سعياً في الحصول على عائد مادي أو دعم معنوي.
بات التطرف يثير إرباكاً عالمياً ومحاولة لمحاربة فكر يتغلغل حتى يصل إلى أي شخص في العالم عبر التقنية الرقمية. فالتعدد الجغرافي لأعضاء داعش يأتي لسبب منطقي يعود لثورة الإنترنت وبالتحديد الإقبال القياسي على وسائل التواصل الاجتماعي، فتلك الطرق تتيح حتى لأكثر الأشخاص انعزالية أن يتواصل مع الآخرين بمجرد لمسة على هاتفه الخلوي.
بات من السهل التوصل إلى أي شخص في العالم وإقناعه باعتناق مبدأ ما بشتى الطرق. تشير دراسة قدمها الباحث جاي أم برجر للكونجرس الأمريكي أن 45 ألف حساب في «تويتر» تابع لتنظيم داعش منذ عام 2014، ويهدف لنشر الفكر التكفيري عالمياً.
وبعد أن تم إيقاف 18 ألف حساب مرتبط بالتنظيم، تعرّض مؤسس «تويتر» جاك دورسي والعاملين معه بتهديد بالتهجم على الأشخاص والمباني وعدم التورّع بالقتل، ما يعكس ثقة كبيرة في قدرتهم على تهديد أي شخص يقطن أي بقعة جغرافية. يظهر جلياً تمكن داعش من حشد الآلاف من الحسابات، وإداراتها عبر مناطق تحت سيطرتها كالعراق وسورية، ما يعكس وجود إمكانات وعدد كبير من المختصين في مجال التقنية ومحترفي التأثير النفسي والإقناع. يلحظ اختيار تقنيات جاذبة لفئة الشباب، واستخدام لغات متعددة للتواصل مع عدد أكبر من الجنسيات. تظهر قصص غرائبية القدرة على إقناع أشخاص بعيداً عن الأسباب الدينية أو الاقتصادية، كمغنية الروك البريطانية الأربعينية سالي جونز، التي قررت التوقف عن الغناء وهجر طفليها للانضمام لتنظيم داعش في سورية واللحاق ببريطاني متطرف للاقتران به، لتشرع فيما بعد بنشر صورها عبر الإنترنت وهي تحمل السلاح في تأهب للقتال.
المرأة قائدة ومستعبدة
ما يثير التعجب هو مدى قابلية النساء إلى الانضمام إلى الجماعات المتطرفة أخيرا، بل القدرة على تحويرهن إلى شخصيات غير متعاطفة مع الضحايا. تباهى تنظيم داعش بإنشاء كتيبة الخنساء النسائية، حيث تمتلك العضوات حق تفتيش النساء ومحاكمتهن في حال لم يلتزمن بالحجاب الشرعي المبالغ فيه لديهن، كارتداء عباءتين وإخفاء ملامح الوجه.
يظهر جلياً تفعيل دور المرأة كقيادية وانتحارية ومساهمة في الدعم اللوجستي وحتى حاملة للسلاح، وهو تطور نوعي يختلف عن تعامل تنظيمات أخرى أكثر تقليدية مع المرأة، كما حدث مع تنظيم القاعدة، إلا أن التخبط حين تحصد حالات السبي كما حدث مع الإيزيديات من جهة، أو إعطاء المنتميات إلى داعش دورا هامشيا يقتصر على الزواج من الأعضاء وتلبية رغباتهم.
لم يمنع ذلك عدداً كبيراً من النساء والشابات، ومئات الأوروبيات تتفاوت أعمارهن بين 16 إلى 24 عديد منهن على مقاعد الدراسة، من التسلل عبر الحدود وهجر أهاليهن بحثا عن أرض غامضة، وكأن الأمر مجرد رحلة تخييم ممتعة. تصف الدكتورة إرين سالتمان المختصة في التطرف والإرهاب "الأشخاص المجندون في التنظيمات الإرهابية لديهم عادة شعور بالتميز، في عالم يبدو لهم فيه تحقيق الثروة من المستحيلات". ومثل هذا الشعور بفقدان الأمل هو ما تستغله الجماعات المتطرفة لإقناعهم بالانضمام. إذ ترتبط صورتها بمغامرة القيام بتغيير العالم وملاحقة أوهام. تتكرر القصص التي تبرر انضمام عدد كبيرة من الفتيات تركن حياتهن المرفهة بعد أن نسجن قصص حب عن بعد مع أحد المنضمين لداعش فقررن اللحاق بهم للزواج.
استقطاب نفسي
يعدد الدكتور جون هورجان المختص بالدراسات الدولية وعلم النفس، السمات النفسية التي تدفع بالمرء بالتطرف: الغضب والعزلة عن الآخرين، والشعور بانعدام الحيلة، سواء اجتماعياً وسياسياً، ما يدفع بالآخرين بالاحتياج للانضمام لأسرة أو جماعة ما، ويجعل محاولة استقطابهم سهلة.
على الرغم من صعوبة الحصول على معلومات على حيثيات وأسباب الالتحاق بالجماعات المتطرفة، إلا أن بعض الحالات التي تم التطرق إليها عبر وسائل الإعلام تظهر اضطرابات نفسية جلية، كداعشي سعودي يقتل والده وهو يكبّر. أو منفذ تفجير مسجد الصادق بالكويت، السعودي فهد القباع الذي لم يتجاوز عمره 22 عاماً.
فحسب ما نشر عن وصف معارفه له، يظهر اهتزازه النفسي بعدم إكماله تعليمه واتصافه بعدم الاستقرار الوظيفي، إضافة إلى اعتناقه أفكاراً متطرفة منذ صغره جعلته لا يتورع عن تعنيف أقاربه، ممن يعتبرهم اقترفوه ما ينافي مبادئه أو يخالف الدين. يأتي ذلك من تأثره من أقرباء معتنقين فكرا متطرفاً.
نشرت وسائل الإعلام كذلك خبر معلمة سعودية مطلقة بالرياض هربت مع أبنائها الثلاثة لتنضم لتنظيم داعش. بعد أن قامت مجموعة متطرفات بإقناعها بالانضمام لداعش. ولا يعد أخذها لأطفالها مستغرباً، إذ يظهر أن التنظيم احترف تجنيد الأطفال وتدريبهم على القتال في محاولة للتأثير نفسيا وتأهيلهم لأن يصبحوا جنوداً دمويين مجردين من أي أحاسيس تجاه الآخرين. ليس من السهل محاولة إقناع شباب يعيشون في أوطان آمنة وسط أهاليهم. أما انضمام أشخاص يعيشون حرباً داخلية وعدم استقرار أمني كما يحدث في سورية والعراق، فهو بلا شك أسهل بكثير، فالعنف المستمر وانعدام الأمن يدفع بمزيد من وحشية المرء ومحاكمة الآخر وعدم التورع عن قتله.
شخصيات لامبالية
ذكر تقرير نشرته مجلة علم النفس الجنائي والقانوني، أن 1 في المائة من سكان العالم يتصفون بالشخصية السيكوباتية، فيما يتصف ما يصل إلى 25 في المائة من المجرمين بذلك.
يعدد الدكتور روبرت هاري، المختص في علم النفس الجنائي، مواصفات شخصية السيكوباتيين بأنهم: "يظهرون عدم اهتمام مذهل بالعواقب المدمرة لتصرفاتهم تجاه الآخرين. وهم غالباً صارمون في مناقشة المسائل، ويصرحون بكل هدوء بعدم إحساسهم بالذنب، وعدم تأسفهم للألم والدمار الذي تسببوا به، وأنه لا يوجد أي داع لأن يهتموا بالمسألة".
رياض خان مراهق بريطاني من أصل باكستاني قضى في تفجير انتحاري قبل وبعد انضمامه لداعش.
من الصعب حصر أو تشخيص المتطرفين باتصافهم بالشخصية السيكوباتية أو أي علة نفسية، إلا أن خصائص هذه الشخصية تعكس تقارباً كبيراً، كالشخصية الجاذبة المجيدة للتعبير اللفظي والإقناع والتأثير على الآخرين وإن كان عبر التخويف، لإرغامهم باقتراف ما قد يرغبون فيه.
وذلك ما يلحظ في قدرة عدد من أعضاء داعش القياديين أو الأكثر شهرة في جذب الآخرين إليهم، مع استمتاع بالسيطرة على الآخرين، واستغلالهم، إذ غالباً ما تتصف الشخصية السيكوباتية باستمتاعها باستغلال المرأة جسدياً، وذلك يعكسه تهافت والتحاق عدد كبير من الأشخاص لداعش بحثاً عن النساء الرابضات هناك سواء بخيارهن أو قسرياً.
كما تتسم هذه الشخصية بعدم الانصياع للقوانين والتقاليد الاجتماعية والتقليل من شأنها، ويقوم أصحاب هذه الشخصية بانتهاك حقوق الآخرين واقتراف سلوكيات عنيفة وعدوانية، مع فقدان القدرة على التعاطف مع الآخرين وعدم الشعور بالندم، بل قد يصل الأمر إلى الحد الذي يتلذذ فيه بإلحاق الأذى بالآخرين، وقد لوحظ من خلال الصور والاقتباسات والتصوير المرئي، وجود أعضاء داعشيين لا يتورعون عن خطف وتجريم الآخرين بمخالفتهم لتعاليم دينية، ومن ثم نحرهم بوحشية وباستمتاع.
من الطبيعي وجود خلل نفسي يدفع بأشخاص للبحث عن الوحشية، والابتعاد عن السلام. ولأن الجانب النفسي مهم، فلا بد من تفعيل دور أطباء النفس، وتوعية الأسرة والمجتمع لإدراك مدى فداحة وخطورة عدم الالتفات للأطفال وبالأخص في مرحلة المراهقة، حيث يصبح التمرد هدفاً، ما يسهل عملية استقطابهم.
فإذا ما ظهرت بوادر خلل نفسي، أو انعزالية عن المجتمع لا بد من احتواء هذا الشخص وفهم ما يحدث من حوله وتداركه قبل الغوص في عوالم متسترة وتعبئ الآخرين بأفكار تدميرية تبث الحقد والرغبة في إيذاء الآخرين.