إيمان القويفلي- الخليج الجديد-
«استخدام داعش» فنّ ينتمي إلى مجال السيرك والأكروبات، لأن مهارتهُ الأساسية تتمثل في القدرة على تطويع جسد الأفكار وليّها في زوايا حرجة، لتصل بين داعش وأي ظاهرة اجتماعية أخرى، بوصفها منبع «داعش»: «داعش» وغياب دروس الفلسفة في التعليم العام، داعش وتحريم الفنون، داعش والتحريض الطائفي. وعلى الرغم من براعة هذه التشكلات الفنية، وليونتها الفكرية الشديدة، تظلّ مجرّد اقتراحات وتأويلات، وتبقى داعش، كظاهرة اجتماعية، على اتصال بما تتصل به حقاً.
بالطبع، يحقّ لأيّ شخص أن يقدم اقتراحه الخاص لتفسير الظواهر الاجتماعية. النقاش الاجتماعي الحر والمفتوح خامة الديمقراطية، وهو مصدر توليد إجابات المجتمع عن الأسئلة التي يواجهها، لكن هذا النقاش لا يستكمل غايته إلا إذا تعرضت كل فكرة ضمنه، وخصوصاً الرديء منها، للنقد. بهذا المعنى، النقاش الاجتماعي السعودي حول منابع داعش أمر صحّي، والمساهمة بمختلف الاقتراحات أمر مقبول، لكن نقد هذه الاقتراحات ضروري، لكي لا يصبح هذا النقاش مجالاً للتضليل والتعمية بدلاً من كونهِ مجالاً للفهم والرشاد.
أزمة النقاش الاجتماعي السعودي بشأن داعش أن تقديم المقترحات يفوق بكثير الاهتمام بنقدها، وتتمثل أيضاً في المصادر المعطوبة لهذه الاقتراحات. جاذبية «منابع داعش» كموضوع لا تعود فقط إلى كونهِ راهناً وصادماً، وفي حاجة حقيقية إلى تفسير مقنع، لكنه جذاب بشكل أكبر، لأنه موضوع غامض، وغموضه يجعله قابلاً لأيّ تفسير، أي كلام قريب وسهل.
التنظير حول داعش يستطيعه أيّ أحد، لأنّ كل أحدٍ يمكنه أن يبتكر تفسيراً لا يوجد ما يدحضه، ولا ما يثبته أيضاً، والمجتمع السعودي منجم للأزمات الثقافية والاجتماعية المتاحة للتوظيف في هذه التفاسير. هيأ هذا المناخ لما هو أسوأ: الانتقال من ابتكار تفسير اعتباطي إلى ابتكار تفسير انتهازي، أو الانتقال من تفسير داعش إلى استخدام داعش، وهذا أسوأ بكثير، لأنه يأخذ النقاش الاجتماعي إلى مستوى جديد من التضليل والتعمية.
استخدام داعش حركة فنية أكثر من كونها اشتغالاً فكرياً، لأنها لا تتم عبر التفكير في الموضوع، بل عبر ليّه وتطويعه واستخدامه في البرهنة على قضايا أخرى، هي موضوع الاهتمام الحقيقي.
قال المهتم بنقد الخطاب الديني إن داعش صنيعة للجمود والغلو والتكفير.
قال المهتم بالتربية إن داعش صنيعة الخلل في التربية الدينية والتعليم العام.
قال المهتم بالفنون إن داعش صنيعة تحريم الفن.
قال المشغول بالطائفية إن داعش صنيعة الكراهية.
وقال المشغول بالفلسفة إن داعش ظهرت لأن الفلسفة لا تُدرّس في المدارس.
وقال السلطوي إن داعش ظهرت بسبب حرية الكلام في «تويتر».
ووسط الإيقاع الثابت، والسياق الفكري المعروف لكل شخص من هؤلاء، يمكن التقاط داعش موضوعاً يحضر عرضاً ضمن اهتمامه الأساس والمستمر، اليوم وأمس وغداً. كل هذه القضايا مهمة وحقيقية وتحتاج إلى أجوبة، الفن والفلسفة والخطاب الديني والطائفية والتحريض.
هي قضايا قائمة بذاتها، ولا تحتاج إلى إعادة إنتاج سردياتها باستخدام داعش، لكن تجمد كثير من هذه القضايا منذ أعوامٍ عند نقطة معينة بلا حلّ، وبلا تطور اجتماعي أو حكومي تجاهها، جعلها تبدو في ميدان النقاش العام مثل ركامٍ مُملّ ومكرور ولا يلفت النظر، فيلجأ المهتمون بها إلى استجلاب الضوء بأيّ طريقة، حتى لو كانت انتحال بعض الضوء الساطع (إلى درجة تُعشي العيون) المركز على داعش، حتى لو كان معنى هذا ابتكار تأويلات ركيكة وملتوية حول دور الفن في تنمية الإحساس، أو قدرة الفلسفة على تطوير العقل، وكأن هذا الكمّ من العنف هو حصيلة مباشرة «للغباء» أو «بلادة الحِس الجماليّ».
نقد الخطاب الديني، على سبيل المثال، اكتسب صيغة معينة ومقولات ثابتة في المجال السعودي، في العقدين الأخيرين، وبلغ ذروته عقب انفجار مسألة «القاعدة» الذي أوجد سوقاً كبيرة لهذا النقد.
تراجع هذا الخطاب النقدي عن التطور، ودخل هو أيضاً في أزمة «جمود وتطرف وخرافة وتناقض». الآن، في ظل انفجار داعش، يحاول هذا الخطاب أن ينعش سوقهُ ويبيع مقولاتهِ مجدداً، ولينجز هذا، فهو يتجاهل أي فروق قائمة بين «القاعدة» و«داعش»، ويتجاهل كل التداعيات الثقافية والاجتماعية والأمنية العميقة التي انبنت أصلاً على انفجار مسألة القاعدة.
ويتجاهل أن الشعبية الصادمة عام 2001 لأسامة بن لادن والتأييد الاجتماعي الواسع والصريح لضرب برجي التجارة العالمية، لا يحوز مثلهما «أبو بكر البغدادي» ولا عمليات داعش، لكنه يستمر في إنتاج الخطاب النقدي نفسه، المبني على افتراض أن داعش مُنتجٌ شعبي لثقافة المجتمع عموماً وسياقه الديني.
لا يؤدي هذا الأسلوب في استخدام «داعش» إلى فهم اجتماعيّ أفضل، لكنه يعمم الفوضى الذهنية واختلاط الأوراق ويجعل الوصول إلى تفسير مقنع أكثر صعوبة.
لو صدق المجتمع السعودي مع نفسه في هذا النقاش، سيقول الحقيقة، وهي أنهُ لا يعرف حقاً منابع داعش، لكن هذا صعب على الكرامة، يصعب على من يعتبر نفسه مثقفاً في مجتمعه ألا يمتلك نظرية واضحة بشأن أهم الظواهر الاجتماعية، لكن الحقيقة أن الخزّان الحقيقي للمعلومات حول القاعدة وداعش، هو الحكومة، التي تحتفظ لنفسها بكامل المعلومات في سرية مطلقة.
وما يُنشر بين وقت وآخر في الصحافة السعودية عن أعداد الجهاديين ومستوياتهم التعليمية وخلاياهم الجهادية وقصصهم المثيرة لا يمكن اعتباره معلوماتٍ حقيقية، يمكن أن تبنى عليها نظريات محترمة وتفاسير معقولة.
التفسير الحقيقي يحتاج إلى معرفة دقيقة بالنمط، إلى توفر نتائج دراسات اجتماعية عميقة حول الظاهرة، وهذا النوع من الدراسات إما أنه لم يُنجز، أو أنجِز لكن النتائج محفوظة بسرية، وتبقى داعش متاحة للاستخدام.