د. صبحي غندور- البيان الاماراتية-
خطرُ جماعات التطرّف العنفي بأسماء «إسلامية»، موجودٌ فعلاً، ولا مجال لنكرانه، ولا يصحّ القول فقط إنّ هذه الجماعات هي «صناعة خارجية»، يتمّ الآن توظيفها. فالمشكلة الأساس، هي بوجود بيئة مناسبة لنموّ مثل هذه الجماعات في الدول العربية والإسلامية، بغضّ النّظر عمّن يبدأ بالزرع،..
وعمّن يحصد «الثمرات» لاحقاً. فلو كانت «الأرض الفكرية» لهذه الجماعات قاحلة ويابسة وغير مرويّة محلّياً، لما أمكن لأيّ زرع خارجي أن ينجح أو أن يحصد ثمار شرّ ما يزرع.
إنّ تنظيم «داعش» يستفيد ويقوى الآن، ليس فقط من دعم أربعين دولة، كما قال الرئيس بوتين في ختام قمّة العشرين، بل أيضاً من قِبَل بعض العرب والمسلمين، الذين يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً، ولو عن غير قصد، مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بأفعالهم وأقوالهم إلى «عدوّهم» الآخر..
وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى. وطبعاً، فإنّ هذا النوع من «الدعم» مدان ويزيد الآن الشروخ الإسلامية والعربية، ولا يبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، يرفدها بمزيد من المؤيّدين.
ظاهرة «داعش»، خرجت من وحل جماعات الإرهاب في سوريا، لتمتدّ إلى العراق، وتهدّد مصير معظم دول المنطقة. فالمشكلة الآن، هي لدى من يواجه ظاهرة «داعش» كجماعة إرهابية، ويرفض معالجة أسباب انتشارها في بعض المناطق، وهي أيضاً مشكلة لدى من يراهنون على «داعش» لتوظيف أعمالها لصالح أجندات محلية أو إقليمية خاصة، بينما هم لاحقاً ضحايا لهذه الأعمال، وسيحترقون أيضاً بنيرانها.
تساؤلات عديدة ما زالت بلا إجابات واضحة، تتعلّق بنشأة جماعة «داعش»، وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف! ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت التسمية الأصلية «داعش»، بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي الدول المعروفة تاريخياً باسم «بلاد الشام..
وماذا كان سبب عدم ذكر تركيا أو الجزيرة العربية أو دول أخرى، طالما أنّ الهدف هو إقامة «خلافة إسلامية»؟!، أليس لافتاً للانتباه، أنّ العراق ودول «بلاد الشام»، هي التي تقوم على تنوّع طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعة عربية أو إسلامية أخرى في العالم؟!،
ثمّ أليست هذه الدول هي المجاورة لـ «دولة إسرائيل»، التي تسعى حكومتها الراهنة جاهدة لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها كـ «دولة يهودية»؟!، ثمّ أيضاً، أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة بتفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلات طائفية وإثنية، فتكون إسرائيل «الدولة الدينية اليهودية»، هي الأقوى والسائدة على كل ماعداها بالمنطقة؟!
أليس كافياً لمن يتشكّكون بالخلفية الإسرائيلية لهذه الجماعات الإرهابية، التي تنشط بأسماء عربية وإسلامية، أن يراجعوا ما نُشر في السنوات الأخيرة عن حجم عملاء إسرائيل من العرب والمسلمين، الذين تمّ كشفهم في أكثر من مكان؟!، أليس كافياً أيضاً مراجعة دور إسرائيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك العلاقات التي نسجتها منذ عقود مع جماعات في العراق، وهي تفعل ذلك الآن مع قوى معارضة في سوريا؟!
فمن المهمّ التوقّف عند ما حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح، تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية، وما هو يتحقّق من مصلحة إسرائيلية كانت أولاً، في مطلع عقد التسعينيات، بإثارة موضوع «الخطر الإسلامي» القادم من الشرق..
كعدوٍّ جديد للغرب، بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، ثمّ في ما نجده الآن من انقسام حادٍّ في المجتمعات العربية، وصراعاتٍ أهلية ذات لون طائفي ومذهبي وإثني. فلم تكن صدفة سياسية، أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين في العالم كلّه، وليس بالغرب وحده، بالإرهابيين، طبقاً للتعبئة الإسرائيلية التي جرت في التسعينيات.
حبّذا لو تكون هناك مراجعات عربية ودولية لتجارب معاصرة في العقود الثلاثة الماضية، كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطراف أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود. ألم تكن تلك محصّلة تجربة «العرب الأفغان»، خلال الحرب على الشيوعية في أفغانستان، حيث كانت نواة «القاعدة» تولَد هناك؟!
أليس سؤالاً هامّاً الآن: لماذا تشهد سوريا هذا الحال السيئ جداً، وما فيه من مخاطر على وحدة الشعب والوطن والأرض؟ ثمّ ألم يكن كافياً ما حدث ويحدث في ليبيا، ليكون درساً لمن ما زالوا من المعارضة السورية يطالبون بالتدخّل العسكري الغربي، ويصرّون على إسقاط النظام بالقوة العسكرية؟!، لقد سقط النظام الليبي السابق بفعل تدخّل «الناتو»، وقُتل القذافي والكثير من عائلته وأعوانه..
فهل انتقلت ليبيا إلى وضع أفضل؟. وقد كانت هذه هي محصّلة التدخل العسكري الأجنبي الثاني في المنطقة، في مطلع هذا القرن (بعد العراق)، من أجل «تغيير نظام»، وتحقيق «الديمقراطية».
وكانت هذه هي نتيجة «عسكرة» الحراك الشعبي، وثمن الارتباط بجهات خارجية. فإلى أين يريدون دفع الأمور في سوريا، بعدما ظهر فيها، ما لم يكن في ليبيا من جماعات صنّفتها الولايات المتحدة والعالم بأسره بأنّها «جماعات إرهابية»، وهي التي تقاتل عملياً الآن في معظم المناطق التي تخضع لما يُسمّى بـ «قوى المعارضة السورية»؟!
إنّ المنطقة العربية مهدّدة الآن بمشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الأجنبي لأزمات عربية داخلية، ثمّ مشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرّف الديني العنفي، يسهم بتحقيق المشروعين معاً، في ظلّ غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.
إنّ تنظيم «داعش»، مصيره الانحسار والضمور، مهما ازداد قوّة في العدد والمال والعتاد، فهو كمثل أساليبه الانتحارية، يحمل متفجّرات تطيح به وبمن حوله. لكن يبقى السؤال، من هم الضحايا المحتمل حدوثهم لحظة وقوع التفجير! هل هي جماعات بشرية محدودة فقط، أم أوطان وشعوب؟!
الإجابة هي عند شعوب البلاد العربية، بأن ترفض هذه الشعوب نحر أوطانها وأنفسها معاً، لصالح غايات لا تمتّ بصلة إلى حقوق طوائف أو مذاهب أو إثنيات.. أو حتّى حكومات ومعارضات!