ح.سلفية » داعش

المواقف الضدية من كراهية الآخر إلى الإرهاب

في 2015/12/17

محمد علي المحمود- الرياض السعودية-

إذا كانت بعض الأفكار الدينية تصنع مشاعر الكراهية وإرادة العنف ضد الآخر، فإن المشاعر التي تغذّت طويلاً على الوعي الضدي الكاره لكل ما هو آخر، بتحميله كل أسباب الفشل والهوان والتخلف والانحطاط، تصنع الأرضية الشعورية لتقبل الأفكار المتطرفة..

يؤكد المعنيون بتحليل الظاهرة الإرهابية الدينية على محورية الفكر التكفيري في التأسيس لهذه الظاهرة. غير أن كثيراً منهم يُضيف إلى هذا المؤثر الفكري/الديني المحوري جملةً من المؤثرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية...إلخ، التي تشترك مع العامل الفكري في صناعة هذه الظاهرة، وتدعيمها، وربما الوصول بها إلى الغاية القصوى التي قد لا يستطيع الفكر - بمفرده - الوصول إليها؛ لكونها ظاهرة مركبة متعددة الأبعاد.

من المؤكد أن للفكر دوراً محورياً في تشكيل هذه الظاهرة. لكن، لا تعني محورية الفكر في إنتاج الظاهرة الإرهابية، أنه هو – دائماً - السبب الأول في دفع عجلة التطرف المنتهي بالإرهاب. البداية، المحرك/الدافع الأول/ المحفزات الأعمق، قد تكون فيما وراء ظاهِريّة الخطاب الذي يتشرعن به هذا الإرهاب. وهذا لا يعني أن فكر الإرهاب أقل خطورة، (حتى في مثل هذه الحال التي تُحيل تفاصيل البحث الجنائي المتعلق بالوقائع المتعيّنة إلى محفزات سابقة على الفكر)، بل يعني أنها الأسبق من حيث وضعها في سياق التسلسل السببي، وإلا فإن الفكر – في كل الأحوال - هو الذي يغذي البذرة، ويُنظّم إنتاجها، ويُدخلها في سياق أعم وأشمل، سياق يكفل لها البقاء والنماء، والقدرة على الانبعاث مستقبلاً في كل مناسبة سانحة تحمل في طياتها فرصة التعبير عن العنف المكتوم المتغذي بالكراهية على مدى أجيال.

إذا كانت بعض الأفكار الدينية تصنع مشاعر الكراهية وإرادة العنف ضد الآخر، فإن المشاعر التي تغذّت طويلاً على الوعي الضدي الكاره لكل ما هو آخر، بتحميله كل أسباب الفشل والهوان والتخلف والانحطاط، تصنع الأرضية الشعورية لتقبل الأفكار المتطرفة، من حيث هي (الأفكار الدينية المتطرفة) تُعبّر عن هذه المشاعر وتبررها، بل وتَحمل في مجمل خطابها آليات إخراجها من طورها الشعوري الكامن إلى مستوى الممارسات العملية على مستوى الأقوال أولاً، وعلى مستوى الأفعال ثانياً.

لو كانت البنية الشعورية العامة قد تغذّت طويلاً بأفكار المحبة والسلام وتقبل الاختلاف الديني والمذهبي والعرقي، وقامت على استشعار العلاقات البينية بين المختلفين بوصفها علاقات تفاعلية/تبادلية، قد تدخل فيها الروح التنافسية بطبيعة الحال، لكن، دون أن تصل إلى مرحلة الانفعال بروح صراعية احترابية، أقول: لو كانت البنية الشعورية على هذا النحو، فمن المؤكد أن الأفكار المتطرفة، سواء كانت دينية أو قومية، لن تجد لها مجالاً في القلوب والعقول. ومن ثم، ستكون نجاحاتها في الاختراق محدودة ونادرة، بحيث تحكي بمحدوديتها وندرتها تجربة الفشل في الاختراق؛ أكثر مما تحكي تجربة النجاح.

القومويون سابقاً، والمتأسلمون لاحقاً، لم يُعزّزوا مواقعهم الجماهيرية ذات المنحى الغوغائي إلا بالاستثمار في هذه البنية الشعورية الضدية الراسخة في الأعماق. بلا شك، ثمة روح ضدية تجاه الآخر، أي آخر، متحدرة من أزمنة الجاهلية الأولى، ومتضافرة مع عناصر الوجود القبلي التمايزي، بل الصراعي الاحترابي، الذي رافق العرب منذ تاريخهم الأول، ولا يزال فاعلاً إلى يومنا هذا؛ مع تنوع في تمظهر الظاهرة الضدية الصراعية؛ تبعاً لمقتضيات الحال. وهذه الروح الراسخة هي التي كفلت الرواج للخطاب القومي، وللخطاب الإسلامي الحركي الراهن؛ ما يؤكد أن بُنْيَتهما الذهنية واحدة، رغم تعدد وتنوع مظاهر الخطاب.

يستطيع أي مراقب أن يُلاحِظ أن كوادر الإرهاب الديني، وخاصة الكوادر الدنيا المتواضعة ثقافياً، يعبرون عن مشاعرهم الضدية بذات الروح التي كان يُعبّر بها القومي عن مشاعره الضدية تجاه الآخر. لا شيء مختلفٌ في جوهر الخطاب الضدي، غير بعض العبارات الدينية المدمجة قسراً في السياق؛ لتبرير الأفعال العُنفية في سوق الخطاب السائد/الرابح: الخطاب المتأسلم، تماماً؛ كما كانت مثل هذه الأفعال العنفية تُبرر في سوق الخطاب السائد قبل أربعة أو خمسة عقود: الخطاب القومي.

ما فعله الخطاب الديني في فترات الصدام مع الغرب، وخاصة زمن ما سمي بالاستعمار، ليس أكثر من بعث هذه الروح الضدية، ومدها بمزيد من عناصر الضدية الصراعية، حتى إنه استمد كثيراً من تصوراته عن نفسه، وعن الآخر، وعن طبيعة الصراع، من تراث الخطاب القروسطي الصراعي في أزمنة الحروب الصليبية؛ ليؤكد، ويُبرّر، ويُعمّق، ويُؤبّد هذه الضدية الصراعية، وليقطع الطريق على أي تفاعل توافقي من شأنه يُذيب حدود التمايز بين الأنا والآخر، ويُخفّض من توقعات استمرار روح الصراع، خاصة بعد انتهاء فترة الانتداب الغربي على بعض الأقطار العربية (ما كان يعرف بالاستعمار).

عندما أخذت القومية راية الدفاع - المدجج بكل مقومات الصراع - من تيارات المقاومة ذات الطابع الديني، وخاصة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين (عصر الغوغائية العروبوية)، لم يختلف الأمر، لا في قليل ولا في كثير. التغيير كان محصوراً في بعض مفردات الخطاب التي توحي بروح قومية أكثر منها إسلامية، مع بقاء جوهر الخطاب بكل تفاصيله كما هو. حتى الحروب الصليبية ذات الطابع الديني الصارخ، استحضرها الخطاب القومي، الذي أنتج (فيلم: صلاح الدين)؛ ليضع البطل القومي المراد ترميزه في الذاكرة الجمعية مكان البطل الإسلامي، وليضع اليهود مكان المسيحيين (بجامع الضدية، لا غير، بعيداً عن أي اعتبار آخر)، وكأن لا شيء اختلف أو تغير مع مرور كل هذه السنين (أكثر من تسعة قرون).

العربوي كما الإسلاموي يعيش تاريخه (الحقيقي والمتوهم) في واقعه الراهن بالكامل، ومن ثم، لا يعي ذاته ولا الآخر إلا من خلال تبسيط الوجود كله إلى حالة صراع ثنائي، إلى فسطاطين: أعداء وأصدقاء، يستمر الصراع من خلالهما، الآن؛ وإلى الأبد. فبقاء الأنا واستمرارية صمودها مشروط بوجود عدو شيطاني متآمر، لا يمنح الذات هويتها، ولا يبرر وجودها فحسب، وإنما يتحمل عنها - بمنطق التبرير التآمري - عار العجز الملازم، والفشل المتواصل المنتهي بالتخلف والانحطاط العام.

حتى عندما خرج المستعمر، وتحقق الاستقلال واقعاً ملموساً، لم يستطع الإسلاموي ولا العروبوي تحمل فراغ غيابه على مستوى خطاب تبرير الإخفاق المتواصل. وهكذا، إن لم يحضر الغربي على مستوى الحقيقة، فلا بد أن يحضر على مستوى الوهم؛ ليتحمل أوزار الأنا كاملة، مع ما يُضاف إليها من مستلزمات لغة الهجاء.

من هنا، فإن كل صور الإخفاق التي أعقبت خروج المستعمر، والتي كانت تتضخم كلما ابتعدنا عن اللحظة الاستعمارية، كان الخطاب التبريري الخارج من رحم الضدية الصراعية يُحيلها إلى زمن الاستعمار. وحتى عندما يتعذر ذلك على مستوى ربط الوقائع المتعينة بمُسبّباتها الآنية/ المباشرة، يجري التأكيد على أن الاستعمار المباشر هو الذي خرج، بينما بقي الاستعمار اللامباشر، أي التأكيد على أن المستعمر خرج ولم يخرج، إذ – كما يقول الخطاب الضدي التبريري صراحة - خرج بذاته، وأقام وُكلاءه، يعملون له ما يريد وزيادة!. وطبعاً، كل ما يريده الاستعمار – وفق هذا الخطاب المريض – يتمحور حول تدميرنا وإذلالنا وإبقائنا نرسف في قيود الفقر والتخلف والظلم؛ لأن تقدّمه وتطوره ورخاءه وبقاءه سيداً للعالم، مرتبط – وفق هذا الخطاب أيضاً – ببقائنا متخلفين فقراء ضعفاء!.

لا يسأل الخطاب الضدي: القوموي ولا الإسلاموي نفسه: أين كانت الأقطار العربية والإسلامية قبل هذا الاستعمار؛ من حيث توفّرها أو عدم توفّرها على كل مقومات التخلف والانحطاط والتشرذم والصراع؟. يزعم هذا الخطاب الضدي، بل ويؤكد بكل صور التأكيد، أننا لولا الاستعمار الذي عَبَرَ أرضَنا؛ لكُنّا اليوم مُتّحدين، أقوياء، أغنياء، متقدمين...إلخ صفات الإيجاب. وطبعاً، لا دليل على هذا الزعم الأرعن؛ إلا محض الادعاء المفتقر إلى كل دليل واقعي.

إن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد أن العرب والمسلمين كانوا سيكونون على هذا المستوى من التخلف؛ حتى لو لم يعبر الاستعمار ديارهم، بل حتى لو لم يسمعوا بالاستعمار أصلاً. ربما يكون العكس صحيحاً في كثير من الأحيان، أي لو لم يعبر الاستعمار كثيراً من ديار العرب والمسلمين؛ لربما كانوا اليوم أشد تخلفاً، وفقراً، وانحطاطاً، وتشرذماً، وتَظالماً، وصراعاً مع أنفسهم؛ مما هم عليه الآن. وأعتقد جازماً أن العرب لولا النظام العالمي الذي يقوده الغرب/الخصم؛ لأكلَ أقوياءُ العرب ضعفاءَهم، ولاسْتَعبد بعضُهم بعضاً، باسم العروبة أو باسم الإسلام.

الأغلبية الساحقة من بلدان العالم مرت عليها قاطرة الاستعمار، ومع هذا لم تُنتج هذا الخطاب الضدي المتوهج بمعاداة الغرب. بل إن كثيراً من بلدان العالم خاضت صراعات وصراعات مع الغرب، صراعات خلّفت في بعض الأحيان ملايين القتلى (بلغة الأرقام: العرب من أقل الشعوب تعرضاً لسلبيات الاستعمار)، ومع هذا لم تضع الغرب كله، ومن ورائه العالم، عدوا تستنفر كل مكوناتها الثقافية لتحميله جميع مصائبها وكوارثها، ومن ثم لتأكيد العداء له، وتشريع الصراع الأبدي معه؛ كما يفعل العرب والمسلمون. بل على العكس، تفاعلت معه رغم كل صراعات الماضي، ودخلت معه في تفاعل حضاري إنساني، إلى درجة أصبحت معها جزءاً من هذا العالم. بينما بقي الخطاب العروبوي والإسلاموي يُعزّز في جماهيره البائسة غوغائية النظرة الضدية إلى العالم؛ فيتمحور حول ذاته، ويَعدّ العالم عدواً متآمراً متربصاً يكيد له في السر والعلن، ويضع له السم في العسل؛ فيتحول العالم كله إلى وجود شيطاني يجب التعامل معه بحذر شديد، مع استشعار دائم لحالة العداء الأزلي والأبدي.

إن صناعة أجيال تستشعر هذه الروح الضدية/ العدائية تجاه العالم، لن تستطيع التصالح مع ذاتها أولاً، ومع العالم ثانياً، وستنظر إلى كل ما يتحقق إيجابياً في العالم على أنه تحقق سلبي بالنسبة إليها. والأهم، أنها ستستجيب لكل ما يعزز هذه النظرة العدائية، وستجد خطابات الكراهية - على اختلافها - أرضية خصبة لها. وهذا يعني أن هذه الضدية التي تعزز موقف الضد مع الآخر، تضع الأرضية الشعورية لاستقبال كل خطاب إرهابي، ولن يحتاج مُروّجو الإيديولوجيات الصراعية إلا إلى وضع البذور في هذه التربة الخصبة. وفي الاتجاه المقابل، نحن لن نستطيع قطع الطريق على كل خطابات الإرهاب إلا بتجريف هذه الأرضية الشعورية المفعمة بالضدية، ومن ثم تحويلها – بتعزيز خطاب التنوير العقلاني - إلى أرضية شعورية ذات حصانة ضد خطابات الكراهية التي تتضمن – بالضرورة - المقدمات الأولى للإرهاب.