«بروكينغز»- ترجمة وتحرير: فتحي التريكي- الخليج الجديد-
أثارت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «هيلاري كلينتون» الوضع الشديد التعقيد والفريد من نوعه للمملكة العربية السعودية في الصراع مع «الجهاد العالمي»، وهو موضوع معقد جدا لدرجة أن الجدال حوله يحتاج إلى المزيد من الاهتمام.
وقالت «كلينتون» إن السعودية ينبغي عليها أن تفعل المزيد من أجل وقف مواطنيها من تمويل التطرف، ومن المفارقات، فإن هذا موضع جيد لفهم الدور السعودي المعقد جدا في بلجيكا.
يقع الجامع الكبير في بروكسل في واحدة من الحدائق الأثرية الجميلة، والتي تم افتتاحها في الذكرى الخمسين لاستقلال بلجيكا في عام 1880، في الأصل، تم بناء المسجد كجناح شرقي في مجمع للمتاحف كان قد تم تشييده داخل الحديقة كعلامة على الذكرى.
ولم يكن المسجد بمثابة دار للعبادة بقدر ما كان متحفا لتعليم البلجيكيين عن الإسلام والشرق الأوسط،.. وعلى مر السنين عقب الاحتفالات في عام 1880، تم إهمال المبنى وتدهورت حالته.
الملك «فيصل» والوهابية
في عام 1967، أعطى الملك «بودوان» ملك بلجيكا المبنى كهدية إلى الملك «فيصل بن عبد العزيز» ملك المملكة العربية السعودية، والذي كان في زيارة حسن نية إلى أوروبا.
كان «فيصل» قد تم تنصيبه ملكا منذ 3 سنوات بعد صراع الخلافة الذي طال أمده مع أخيه «سعود»، وكان دور العلماء ورجال الدين الوهابيين حاسما في ترجيح كفة «فيصل» في صراع السلطة، كما كان الأخير متحمسا لإثبات تقواه وتفانيه في خدمة الإسلام الوهابي للحفاظ على صالح رجال الدين.
على المدى العقد التالي، حافظ «فيصل» وخليفته «خالد» على التمويل السخي لاستعادة حالة المبنى الأصلية وتحويله إلى مركز ديني كبير في بروكسل، عرف بالمركز الثقافي الإسلامي البلجيكي.
تم افتتاح المركز رسميا عام 1978 في حفل حضره الملك «خالد» والملك «بودوان»، واليوم هو المسجد الأكبر والأكثر نفوذا في عاصمة الاتحاد الأوربي ويقع على بعد مئات الأمتار فقط من مقر الاتحاد الأوربي في المدينة، وكان بيتي لأكثر من ثلاث سنوات يظل مباشرة على الشارع المؤدي إلى المسجد (شارع عصر النهضة) لذا فقد طالعت هذه الأمور رأي العين.
هذا المسجد في بروكسل هو دلالة على رمزية الملك «فيصل» الحاسمة في كل من المملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي بشكل أوسع.
خلال فترة حكمه، بدأت المملكة العربية السعودية في تصدر العلامة التجارية الخاصة بها للإسلام في جميع أنحاء العالم، وبتكليف من «فيصل»، تم إنشاء الجوامع الكبيرة في العديد من البلدان من بلجيكا إلى باكستان.
التوسع السريع في الإيرادات النفطية للمملكة دفعتها للشروع في تصدير أفكارها إلى جميع أنحاء العالم، والملك «فيصل» بحق يعتبر مهندس الدبلوماسية السعودية الحديثة القائمة على «إرث القيم الإسلامية المتزمتة لأحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب».
في الواقع، كانت والدة «فيصل» أحد أحفاد مؤسس الوهابية، بما يعني أنه قد جمع بين نسب أكبر عائلتي في المملكة وهما آل سعود، وآل شيخ.
ساعدت الصادرات النفطية الملك «فيصل» في تدعيم خطته لتعزيز القيم الإسلامية في جميع المجتمعات الإسلامية حول العالم.
العديد من أعماله استفاد منها المجتمع الإسلامي العالمي، بداية من توفير المدارس والمستشفيات والمساجد لكثير من المؤمنين، ولكن هذه الأعمال أيضا غدت العناصر الأقل تسامحا والأكثر تطرفا في هذه الأمة،.. فهناك الذين استغلوا إيمانهم لأغراض سياسية من أجل تبرير «الجهاد العالمي» والإرهاب.. «أسامة بن لادن» ليس سوى النموذج الأكثر شهرة لهؤلاء.
كان «فيصل» ليندد بالتأكيد بـ«القاعدة» وأفعال «بن لادن» إن كان على قيد الحياة اليوم ولكنه بسبب جهوده في نشر الإسلام المتعصب فإن بعض اللوم يقع عليه في المشاكل التي يواجهها الإسلام اليوم.
أصبحت بلجيكا معقلا للتشدد الإسلامي والتطرف، نمت الجالية المسلمة الصغيرة لعام 1967 مع المهاجرين ومعظمهم من المغرب، وقد انضم الكثير من البلجيكيين إلى جماعات مثل تنظيم «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» بمعدل يفوق أي بلد آخر في أوروبا، فمنطقة مولينبيك، المنطقة المحيطة بالمجمع الإسلامي حققت شهرة كأحد أماكن تمركز «الجهاد المركزي» في أوروبا.
الملك «فيصل» هو مهندس المملكة العربية السعودية الحديثة، لقد ورث المملكة بينما لا تزال فقيرة جدا وكأنها قطعة من القرون الوسطى وحولها إلى دولة حديثة ذات حضور عالمي. كان عليه أن يضمن أنه بعد الخروج من رماد معركة صراع الخلافة الخطيرة، فإن مرور السلطة من أحد أشقائه إلى الآخر من شأنه أن يوفر الاستقرار في المملكة لمدة خمسين عاما.. هذا الاستقرار يمثل حجر الأساس للإنجازات الملحوظة في المملكة.
السعوديون وحل مشكلة «الجهاد العالمي»
في وقت سابق من هذا الأسبوع، دعت« هيلاري كلينتون» المملكة العربية السعودية وقطر، وهما الدولتان الوهابيتان الوحيدتان في العالم، للقيام بعمل أفضل لضمان أن مواطنيهما لا يقومون بتوفير التمويل للجماعات على شاكلة جبهة النصرة و«الدولة الإسلامية»، وقد كانت تلك موعظة علنية غير معتادة من صانعي السياسة الأمريكية تؤكد على أن المملكة العربية السعودية تمثل، على حد سواء، جزء من المشكلة وجزء من الحل لـ«الجهاد العالمي».
كانت «كلينتون» محقة بتوجيه الدعوة إلى حوار أكثر صراحة وحسما بين واشنطن والرياض حول هذه الموضوع الذي غالبا ما كانت تجري مناقشته خلف الأبواب المغلقة ولكنه يحتاج الآن إلى المزيد من الشفافية.
كانت المملكة العربية السعودية حليفا فعالا للغاية ضد تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة لأكثر من عقد من الزمان، ولكن منذ دعا «بن لادن» للإطاحة بآل سعود فقد بدأت المملكة حملة عنيفة من أجل تقويض التنظيم.
ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن نايف»، قاد المعركة السعودية ضد أتباع «بن لادن»، ويقود أيضا الجهود الرامية إلى وقف التمويل الخاص للمجموعات الإرهابية حاليا.. الكثير من الخطاب العام حول صلة السعودية بـ«الجهاد العالمي» هو خطاب هستيري ومبالغ فيه.
ولكن كما تشير تصريحات «كلينتون»، هناك الكثير مما يتعين القيام به.. لا تزال بعض المصادر السعودية تقوم بتمويل بعض الجماعات مثل حركة «طالبان» الأفغانية وحركة عسكر طيبة في باكستان وتشير بعض التقارير أن بعض الأموال السعودية قد ذهبت إلى جبهة «النصرة» فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا.
حتى تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية، الذي حاول اغتيال الأمير «نايف» أكثر من مرة، فقد استفاد بشكل غير مقصود من الحرب التي تشنها المملكة العربية السعودية في اليمن في مواجهة المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران.
هذه قضايا معقدة وصعبة للحوار.. السعوديون مثل الأمير «تركي الفيصل» رئيس الاستخبارات الأسبق لاحظوا بحق أن المملكة العربية السعودية تحارب الإرهاب منذ سنوات طويلة، وأن الولايات المتحدة قد ساعدت أيضا عن غير قصد لإنشاء «الجهاد العالمي» في شراكتها مع المملكة في الحرب الأفغانية في الثمانينيات.
الحوار بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ليس بسيطا أبدا.. نحن حلفاء على غير العادة، لذا من المهم جدا أن يدار الأمر بشكل صحيح.