معهد الشرق الأوسط- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-
مثلت زيارة الرئيس الصيني «شي جين بينغ» في الشهر الماضي إلى المملكة العربية السعودية، ومصر، وإيران الخطوة الأولى في إطلاق مشروع الحزام الصيني واستراتيجية الطريق الأوحد (عبور) في الشرق الأوسط. حملت هذه الزيارة انعكاسات كبيرة على العلاقات بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الذي تخضع فيه رقعة الشطرنج الجيوسياسية لتحولات رئيسية.
تدرك دول مجلس التعاون الخليجي أن مشروع الطريق الصيني يتكون بشكل أساسي من شريانين رئيسيين، أولهما هو حزام طريق الحرير الاقتصادي، والثاني هو طريق الحرير البحري. زيارة الرئيس الصيني إلى الدول الإقليمية الثلاث الكبرى في الشرق الأوسط تلعب دورا رئيسيا في هذه الخطة الصينية. أولا، من وجهة نظر الصينيين، فإنها تلعب دورا في تأمين الأراضي والمعادن الاستراتيجية والطاقة. أما العامل الآخر، وهو أمر بالغ الأهمية لدول مجلس التعاون الخليجي، هو أن كلا الشريانين يعبر أو يتاخم طرق الملاحة الخاصة بدول مجلس التعاون الخليجي حول الجزيرة العربية. تعلم دول مجلس التعاون الخليجي أن الصين ترى هذه الممرات البحرية في غاية الأهمية لنجاح مشروعها، وبالتالي فإن دول مجلس التعاون الخليجي والصين بحاجة إلى العمل معا للحفاظ على هذه الممرات البحرية خالية من التهديدات، والذي هو السبب الرئيسي وراء دعم «شي» للحكومة اليمنية المدعومة من السعودية في عدن. ترى بكين نفسها كمفاوض يقف على جبهة من الجغرافيا الطائفية، لذا فإنها تعمل من خلال تعزيز التنمية الاقتصادية وتجاهل ما تراها على أنها منازعات أقل أهمية بالنسبة لها على المستوى الديني والسياسي. الصين الآن، أكثر من أي وقت مضى، تسلك نهجا طويل الأجل في تعاملها مع الشرق الأوسط.
الأهم من ذلك، ونظرا لأن النقاط الاستراتيجية في طريق (عبور) تتداخل مع منطقة الشرق الأوسط وإيران، فإن العلاقات الناشئة تأخذ أبعادا أمنية. مع صعود البنية التحتية الاستثمارية للصين في آسيا، ونشاط بنك الاستثمار الأسيوي، فإن العلاقات متعددة الأطراف الناشئة سوف تركز بشكل متزايد على سلامة وأمن المصالح والاستثمارات الاقتصادية لجميع البلدان، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي. دولة الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص تستضيف فرعا للبنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية، بالنظر إلى أن أبو ظبي تعد أحد الأعضاء المؤسسيين له. وتمثل مؤسسة شنغهاي للتعاون أحد العوامل التي تعزز بدورها هذا النهج. في حال قامت المؤسسة بترقية وضع إيران من دولة مراقب إلى دولة عضو فإن حسابات التفاضل والتكامل الصينية، والروسية أيضا، سوف تتغير، حيث سيكون بإمكانهما الدخول إلى منطقة الخليج عبر البوابة الفارسية، ومن الواضح أن هذا سوف يسهم في زيادة الحساسيات الحالية لدى دول مجلس التعاون الخليجي.
البعد العسكري وصعود التفاعل الاقتصادي
طالما كانت دول مجلس التعاون الخليجي ترى أن هناك مشكلة في العلاقات الوثيقة بين الصين وطهران. يرتبط البلدان بعلاقات دبلوماسية رسمية منذ عام 1971 وذلك قبل أن ترى معظم الدول الخليجية النور بشكلها الحالي. أنشأت دولة الإمارات العربية المتحدة علاقات دبلوماسية مع الصين في عام 1984 وقطر في عام 1988، والبحرين في عام 1989. وقد كانت المملكة العربية السعودية هي آخر دول مجلس التعاون الخليجي التي أقامت علاقات رسمية مع الصين في عام 1990 في أعقاب الحرب بين إيران والعراق، وعلى أعتاب غزو العراق للكويت. في البداية، غالبا ما كانت دول مجلس التعاون الخليجي تشتبه في النوايا الصينية تجاه الحرص على إقامة علاقات مع طهران، لاسيما مع نمو العلاقات الصينية الإيرانية عبر العديد من المجالات، بما في ذلك تكنولوجيا التسلح والطاقة. كما شهدت دول مجلس التعاون الخليجي في وقت سابق تدفق المهندسين الصينيين وعملهم في بناء الجسور والسدود والسكك الحديدية والأنفاق في جميع أنحاء إيران، بما في ذلك مترو طهران. وطالما أسر الخليجيون إلى حلفائهم في الولايات المتحدة وأوروبا أنهم يرون أن الصين تساعد عدوهم بهذه الطريقة. ويبدو أن هذا التفكير لا يزال حاكما إلى اليوم. وفقا لمسؤول متقاعد في مجلس التعاون الخليجي فإن العلاقات الصينية الإيرانية شهدت تحولا كبيرا قبل 30 عاما وأنها صارت تمثل تهديدا لدول الخليج. مجلس التعاون الخليجي يرى الآن أنه لابد من الانخراط مع الصين، وقد بدأت عملية الإحماء في العلاقات الخليجية الصينية ليس فقط على المستوى الاقتصادي ولكن أيضا على الصعيد العسكري وانتقلت العلاقات تدريجيا من الحذر إلى قدر من المشاركة على مدار العقود الثلاثة الماضية.
ما تسبب في قلق دول مجلس التعاون الخليجي في البداية هو نمو تجارة الأسلحة الصينية مع إيران. منذ أوائل الثمانينيات، شملت تجارة الأسلحة الصينية مع إيران توفير الآلاف من الدبابات والمركبات المدرعة وقطع المدفعية والمئات من صواريخ أرض جو وصواريخ جو جو وصواريخ كروز والصواريخ البالستية، وكذلك الآلاف من الصواريخ المضادة للدبابات. وبالإضافة إلى ذلك، ساعدت الصين إيران في تطوير قدرتها على إنتاج صواريخ كروز والصواريخ البالستية الخاصة بها. ولعل الأهم من ذلك، هو قيام الصين بتقديم مساهمات كبيرة في تطوير الإنتاج العسكري الإيراني من خلال من خلال توفير الخبرة العلمية، والتعاون التقني، ونقل التكنولوجيا والمخططات.
ونظرا لهذه الخلفية التاريخية، فقد قامت دول مجلس التعاون الخليجي، معا أو بشكل منفرد، مع مطلع الألفية الجديدة بمحاولة الوصول إلى الصين عبر المشاركة الاقتصادية بطريقة قوية لتحقيق التوازن مع العلاقات بين بكين وطهران. على سبيل المثال، كانت زيارة الملك «عبد الله» للصين عام 2006 هي زيارته الأولى لأي بلد أجنبي منذ جلوسه على العرش. وقد قام العاهل البحريني «حمد بن عيسى» بزيارة إلى الصين في سبتمبر/أيلول من العام 2014 أثناء توليه الرئاسة الدورية لمجلس التعاون الخليجي من أجل البحث عن فرص جديدة للتنمية المستدامة. وصلت دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى إلى بكين لتوقيع صفقات استثمارية مع مختلف الشركات الصينية، وكذلك صفقات المناطق الحرة والمجمعات اللوجستية على مدى العقد الماضي. رأت دول مجلس التعاون الخليجي أن إيران النووية وسباق التسلح الإقليمي من شأنها أن تكون أمورا سلبية لمحورها الاقتصادي المتنامي، وقد سعت لصناعة روابط مع الصين من أجل إعادة التوازن للموقع التنافسي لدول الخليج ضمن الاقتصاد العالمي.
في الواقع، فإن العلاقات الاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين اليوم هي أكثر أهمية من علاقات بكين مع إيران، ويرجع ذلك ببساطة إلى المنافع المتبادلة. إجمالي التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي ككل، وبين الصين تفوق بأربعة أضعاف إجمالي التجارة الصينية الإيرانية. في عام 2012، بلغت قيمة التجارة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي حوالي 155 مليار دولار مقارنة بـ37 مليار دولار فقط مع إيران. وهذه الأرقام قد تغيرت بالتأكيد صعودا في البيئة الحالية. في الواقع فإن الصين قد تفوقت على الولايات المتحدة كأكبر مصدر لدول مجلس التعاون الخليجي حيث صعدت قيمة الصادرات إلى 60 مليار دولار سنويا خلال العقد الماضي. وعلاوة على ذلك، تقدم دول مجلس التعاون الخليجي للصين ربع احتياجاتها من النفط مقابل أقل من 9 في المائة من إيران. ومن المتوقع أن تصل تجارة دول مجلس التعاون الخليجي مع الصين إلى أكثر من ثلاثة أضعاف معدلاتها الحالية لتصل إلى 350 مليار دولار في العقد المقبل وفقا لبعض التقديرات.
ومن المثير للاهتمام، فإن العلاقات الدفاعية المشتركة بين البلدين قد ارتفعت ببطء خلال الأعوام الأخيرة. قامت الصين ببيع دفعة كبيرة من الصواريخ البالستية إلى المملكة العربية السعودية في عام 1988. وحافظت هذه الصواريخ على وجود عشرات من الفنيين الصينيين في المملكة وتم عرضها بشكل بارز خلال مناورات السيف العسكرية التي شهدها الملك «عبد الله» عام 2013. وقد تم بيع دفعة إضافية من الصواريخ متوسطة المدى العاملة بالوقود الصلب خلال عام 2007. وأظهرت مشاركة الصين في المناورات البحرية لجيش التحرير الشعبي ضمن عمليات مكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال أن بكين يمكن أن تكون شريكا أمنيا لدول الخليج في مجال الأمن البحري. ومن الجدير بالذكر أن عقيدا صينيا قد حضر اجتماعات أجريت في البحرين كجزء من أنشطة رابطة مكافحة القرصنة البحرية في خليج عدن. وفي الوقت الراهن، فإن كلا من السعوديين والإماراتيين يستخدمون طائرات بدون طيار صينية الصنع في أنشطتهم العسكرية في اليمن ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. وهذا يدل على أن دول مجلس التعاون الخليجي ترحب باستخدام التكنولوجيا العسكرية الصينية وتنسيق المواقف الأمنية مع الصين، ولكنها تحتاج في المقابل إلى تحقيق التوازن ضد المواقف العسكرية الإيرانية.
التقاء المصالح
رحبت دول مجلس التعاون الخليجي بجولة «شي» التي جاءت في وقت حرج. العلاقات مع الصين ينظر إليها الآن من قبل العواصم الخليجية على أنها علاقة قوية عميقة الجذور، تمتد في القطاعات السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية والأمنية. وبعبارة أخرى فإن تحولات كبرى تجري في مسار العلاقات الخليجية الصينية بسبب التوافق الكبير في المصالح.
كيف يمكن تعريف هذا التقارب على وجه الدقة؟ بكل بساطة، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى إلى الانخراط في تحديد وخلق سبل ومجالات التعاون مع الصين الجديدة، وبالتبعية، آسيا الوسطى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تعميق التعاون بيد دول المجلس والصين يفتح لهذه الدول آفاقا للنمو الاقتصادي عبر تسهيل التجارة والاستثمار والعلاقات الدبلوماسية في آسيا، وفي المقابل فإنه يعطي بكين فرصا مفتوحة للاستثمار في هذه المنطقة في مجالات تشمل الطاقة المتجددة والاتصالات والبنية التحتية والسكك الحديدية، والفضاء، والتمويل.
التراجع الأمريكي
وفي الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط، فإن دول الخليج تسعى إلى فطم نفسها عن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة. تشهد المملكة تحولا كبيرا نحو سياسات الإصلاح الاقتصادي جنبا إلى جنب مع سياسة خارجية أكثر حزما. وهي ترى أن هناك فرصا واعدة في آسيا بناء على متطلبات الطاقة المتوقعة في الشرق الأقصى، وتحديدا الصين، على المديين القريب والمتوسط. تظهر التقديرات أن الوفرة الحالية في النفط الخام سوف تشهد انخفاضا وأن الأسعار سوف تتصاعد في نهاية المطاف. هذا الانتعاش سوف يعود بالنفع ليس فقط على دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن أيضا الصين التي ترغب في تنمية دوراتها الاستثمارية والاستفادة من خطة الطريق الأوحد.
ومن الواضح أن ارتفاع أسعار النفط سوف يساعد إيران أيضا وهو ما يلقي مزيدا من الضغوط على العلاقة ما بين دول الخليج والولايات المتحدة. تقاعس الولايات المتحدة حول القضايا الإقليمية ذات الصلة مع المملكة العربية السعودية، مثل صعود إيران والحرب في سوريا، قد تسبب في إغضاب المسؤولين الخليجيين ودفعهم في إعادة التفكير في العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين. وقد وفر هذا حافزا إضافيا لدول الخليج للسعي إلى تطوير علاقاتها مع الصين.
ومع ذلك، فإن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تحافظ على إصبعها في الولايات المتحدة وقدمها في الصين، وذلك بناء على تقييمها بأن المصالح طويلة الأجل الخاصة بدول مجلس التعاون الخليجي سوف يتم خدمتها بشكل جيد من خلال الحفاظ على المزايا النسبية التي توفرها العلاقات الجيدة مع الصين. وسوف تستمر الولايات المتحدة في تزويد الدول الخليجية بمنظومات الأسلحة المتطورة. ولكن حقيقة أن الولايات المتحدة تقوم بتعديل مواقف قواتها في دول مجلس التعاون الخليجي وتستعيض عن قوة النيران مقابل مبيعات الأسلحة هو تطور أمني كبير من شأنه أن يضع هذه الدول على حافة الهاوية. تتوقع دول الخليج أن الولايات المتحدة سوف تعود إلى سياسة الاحتواء التي اتبعتها مع إيران خلال حقبة الثمانينيات حيث ستستعيض عن تواجدها النشط من خلال منظومات أسلحة متطورة يتم تشغيلها من قبل دول مجلس التعاون.
هذا يخبرنا أن الاقتصاد هو محرك أكثر قوة من الشؤون العسكرية. يتأرجح البندول الخليجي بشكل واضح تجاه المعسكر الصيني وبديلا عن الولايات المتحدة بناء على أسس اقتصادية بسيطة. في الوقت الراهن، وبينما تطور دول مجلس التعاون الخليجي علاقات أكثر قوة مع الصين، فإن العلاقات العسكرية بين الطرفين سوف تتوسع ومن المحتمل أن تجد الولايات المتحدة أن بكين قد صارت جزءا من البنية الأمنية في منطقة الخليج.