فشلت المملكة العربية السعودية في قراءة المقبل عليها من الغرب. كما فشلت في فهم مخرجات المفاوضات النووية بين إيران والمجموعة السداسية. هكذا وجدت الرياض نفسها في قلب معادلة شديدة التعقيد، تتزاحم فيها «الضبابيات» الداخلية والخارجية، وفي مقدمها «الانخراط» المتعدد الجبهات والمستويات، من مباشر في اليمن إلى غير مباشر في سوريا وليبيا والعراق، مضاف إلى ذلك نشاطها في حيّز مناورة ضيّق، بعد دخولها في دوامة اقتصادية أجبرتها على تطبيق عملية «إعادة هيكلة» كاملة لتركيبتها المالية والإنتاجية وربما «العقائدية»، وهو ما ينذر باحتمال حصول مواجهة مباشرة بين المؤسسة الدينية الوهابية والعناصر «الصاعدة» في العائلة الحاكمة، بقيادة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
يصعب على السعودية في هذه المرحلة بالذات هضم «التقليعة» الأميركية الجديدة، الخاصة باستثمار مرحلة ما بعد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت الولايات المتحدة في الحادي عشر من أيلول 2001، حيث تُظهر واشنطن اليوم استعداداً أكثر وحراكاً أنشط لإنتاج رواية جديدة، على المستويين التشريعي والقانوني في الحد الأدنى، تحدد سرديّة مختلفة تماماً لما جرت عليه العادة خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وهي السردية التي قد تحمّل المملكة المسؤولية شبه الكاملة عن العمليات تلك، ما يعني فتح جردة حساب تبدأ بقضايا التعويضات، وقد تصل حد الاستثمار السياسي الكامل اذا ما اقتضت المصلحة، واذا ما كان الأمر محصّلة نهائية وطبيعية للمسار الذي اختاره الأميركي لمنظومة العلاقات العامة، وكذلك منظومة الحماية والأمن القائمة في منطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي تحديداً. الولايات المتحدة كعادتها لا تقصّر إطلاقاً في إعداد المضبطة الاتهامية، استباقا للمقبل من خيارات أو ملفات أو استثمارات. وهي إذ عكفت خلال السنوات الثماني الماضية على تحضير وصفة مناسبة للاستفادة من «الصفحات السريّة» في مكاتب شرطتها الفدرالية الـ FBI، ترى اليوم طريقاً ممهداً نحو استثمار سياسي واقتصادي واستراتيجي متكامل للدور السعودي المفترض في هجمات «القاعدة» على البرّ الرئيسي الأميركي. وفي هذا السياق جاء تأكيد السيناتور الاميركي السابق بوب غراهام لشبكة «سي إن إن» أن مراجعة الصفحات السرية البالغ عددها 28 باتت في مرحلتها الأخيرة، وهي التي تؤكد انخراط السعودية بهجمات أيلول 2001. إذ يعكف الجنرال جيمس كلابر رئيس الاستخبارات القومية الأميركية على مراجعة التقرير، بانتظار تحويله إلى مؤسسات تنفيذية أخرى.
قضية التحقيق أو «الملفات السريّة» تعود إلى العام 2008 مع الحملة الضخمة التي شنها أعضاء في الكونغرس الأميركي لنشر الوثائق التي تدّعي وجود دور لأمراء من العائلة السعودية الحاكمة في هجمات أيلول الإرهابية، والتي استهدفت الضغط على مكتب التحقيقات الفدرالي لرفع وسم «سري للغاية» عن التحقيق، بحيث هدد الرئيس باراك أوباما وقتها برد فعل قد يصل حد استخدام «الفيتو» لوقف صدور قرار تشريعي حول الأمر. لكنه عوضاً عن تحويل التشدد المعلن هذا إلى آليات عمل، آثر منح الكونغرس حيّزا كافياً لتحويل الأمر الى شبه «قضيّة» متكاملة، إلى أن قام أوباما شخصياً بتحديد شهر حزيران المقبل موعداً نهائياً للفصل في قضية نشر الملفات من عدمه.
موافقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع على مشروع القانون المتعلق بفتح الباب أمام ملاحقة الرياض في المحكمة الاتحادية بنيويورك، يبقى بانتظار آليّة دستورية معينة تقتضي تمريره من قبل مجلس النواب. لكن الواقع المنقول بالصورة والصوت لا يُظهر حماسة لدى إدارة الرئيس اوباما في خطابتها الديبلوماسية تحديداً لاستثمار الأمر. علماً أنه سيغني سلّة الخيارات الأميركية أمام المتغيرات الطارئة على استراتيجيتها في الشرق الأوسط. وهذا ما بدا واضحاً في حديث وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لناحية أن اعتراض بلاده يستند إلى «مبادئ» العلاقات الدولية، واصفاً ما يقوم به الكونغرس بالإلغاء المباشر لمبدأ الحصانات السيادية، الأمر الذي سيحول العالم من القانون الدولي إلى «قانون الغاب».
لا شك بأن الحصانة السيادية تمنع إقامة دعاوى قضائية ضد الحكومات. لكن «قانون الغاب» ليس منتجاً استثنائياً أُسقط في الزمن السيئ على المملكة. فهو كان رافعة استراتيجية للرياض يسمح لها بالاستثمار المباشر في الأزمات، وبتحويل المملكة السعودية إلى دولة «عظمى» بالقياس الإقليمي، في المواجهة الأميركية ـ العراقية في زمن الرئيس صدام حسين، والمواجهة الإيرانية ـ الأميركية «قيد الطي». هكذا تدرك الرياض أكثر من غيرها أن الإدارة الأميركية بحكم «قوتها المفرطة»، قادرة على تحويل جزئيات هامشية، بل وحتى أكاذيب صغيرة، إلى «حقائق» ذات مردود أممي. وقد ظهر الأمر في أكثر من مناسبة، كملف تبرير غزو العراق العام الفين وثلاثة، وكذلك اتهام ايران بالسعي إلى صناعة قنبلة ذرية لأكثر من عقد. فـ «قانون الغاب» هذا كان دوماً حليفاً قوياً للمنظومة الأميركية دولياً وفي المنطقة. ولولاه لما تمكنت الرياض من فرض نفسها شريكاً كاملاً في الأزمة اليمنية، سواء في صناعة الحرب أو في نسج خواتيمها.
تتحضر الولايات المتحدة الأميركية لمرحلة العودة الإيرانية المتوقعة. كما تتحضر للنسخة الجيوسياسية النهائية التي ستنبثق عن الحروب الأهلية والخارجية المتداخلة التي تعصف بعدد من الدول الرئيسية في المنطقة. وعلى هذا المنوال، تنسج واشنطن خيوطاً جديدة توائم المتغيّرات، وتؤهل الأرضية الشرق أوسطية لمجموعة مختلفة تماماً من التحالفات والتكتلات، بمعزل عن السياق الجديد المتوقع للصراع العربي الإسرائيلي، حيث يفترض بالجميع القبول بحيّز ثقيل ومختلف تماماً للدور الإيراني في الخليج العربي، يقترب شيئاً فشيئاً من النموذج القديم المسمى «شرطي الخليج»، خاصة أن إيران تحررت بمساعدة واشنطن من قيود العقوبات الاقتصادية، وعادت للانخراط الاقتصادي والتجاري الدولي الكامل بعدما نجحت في تخطي اختبارات التحمّل طوال العقود الثلاثة الماضية، وكذلك بعد إثباتها للغرب أنها دولة تتخطى الصفة «المارقة»، وتقدّم نفسها كنموذج «ثوري» من الدول «العاقلة».
استبدال الرياض بطهران ليس واقع الحال المقبل على المنطقة. فالرياض لم تكن على الإطلاق دولة كاملة الانخراط، تنشط ضمن حيّزها الخاص من المصالح والقراءة الاستراتيجية. إنما جاء دورها، على أهميته، متمّماً لسلة أميركية قوامها دول الخليج ومصر وتركيا وإسرائيل والأردن، على الأقل في مرحلة ما قبل «الربيع العربي». بموازاة ذلك، فإن طهران بنظامها القائم حالياً، لا يمكن أن تكون حليفاً كاملاً للأميركيين في منطقة الخليج، بل يمكن أن تكون «شريكاً» قوياً قادراً على حماية الاتفاقات والتفاهمات من التقلبات التي عادة ما تعصف بالنخب الحاكمة في دول المشرق عند كل انقلاب زمني. وهكذا فإن حتمية الفارق في الأوزان والقدرات ستحكم الشرق الاوسط في مرحلة ما بعد نتائج «الربيع»، مضافاً الى الأمر الرحيل الأميركي عن الخليج، وما يفرضه من ضرورة وجود خطوط حمراء وازنة، تفرض نوعاً من الانكفاء «العقائدي» والسياسي المانع للصراعات البينيّة. وهذا ما تمحورت حوله «عقيدة أوباما» في مقابلته مع صحيفة «ذي أتلانتيك» في آذار من العام الجاري.
عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-