ماذا يعني أنْ يصمت الأمريكيّون أمام القمع والانتهاكات في البحرين، وفجأةً تبدأ زياراتهم في الظهور؟ هل كانوا، فعلاً، في وضْعٍ “ضعيف” لا يُسمح لهم بإيقافِ القمْع، ومنْع حصوله، أم أنّهم يجدون أنفسَهم – مستفيدين – من مرحلةِ وصول القمع لحدّه الأقصى؟
في خصوص الزّيارة التي قام بها السفير الأميركي في البحرين ويليام روبوك، لمجلس السّيد عبد الله الغريفي، فضّلت الأوساط القريبة من السيد إلى المسارعة إلى اعتبار “الزيارة غير منسّق لها”، وسارعَ القيادي في جمعية الوفاق (المغلقة) عبد الجليل خليل إلى “التوضيح” بأنها الزيارة “عادية”، وأنّ وجوده في المجلس كان صدفةً. إلا أن متابعين رأوا بأنّ هذا “التوضيح” لا يبدو “مقنعاً لجهةِ القوْل بأنّ الزّيارة خاليةٌ من أيّ معنى”، في الوقت الذي سيكون “من الطّبيعي أن يبادر السياسيّون إلى عدم التّعويل عليها، وعدم تحميلها ما لا تحتمل”، وذلك لجهة التّشكيك، أصلاً، بالدّور الأمريكي في ملفّ البحرين، لاسيما مع التّجربة “الأليمة” السّابقة التي يحملها البحرانيّون إزاء الدّور الأمريكي في إعطاء “الضوء الأخضر” لدخول القوات السّعوديّة إلى البحرين في مارس ٢٠١١م، رغم الإيهام الذي اشتغل عليه الأمريكيون للإيحاء بعدم موافقتهم على هذا التدخّل العسكري، وفق الوثائق التي تم تسريبها عن مراسلات وزارة الخارجيّة الأمريكية، وهو أمرٌ ينظر إليه المراقبون بريبةٍ، حيث كان مسؤولون أمريكيون في البلاد عشية دخول قوات آل سعود إلى البحرين، وبينهم وزير الدّفاع الأمريكي آنذاك، والذي التقى حينها بالحاكم الخليفي حمد الخليفة.
بالعودةِ إلى سنوات ما قبل ثورة ١٤ فبراير ٢٠١١م، فإنّ الوسط العام في البحرين لم يكن على “وفاقٍ” مع الإدارة الأمريكيّة، وقد فشل الأمريكيّون في اختراق هذا الشّعور السّلبي بين المواطنين، رغم الجهود الدّبلوماسيّة والعلاقات العامة التي اشتغل عليها الأمريكيون على أوساط المعارضة، والكوادر الشّبابيّة المحسوبة عليها، وبين ذلك المعهد الأمريكي الديمقراطي (NDI) ورئيسه في البحرين، فوزي جوليد. وكان لافتاً أنّ الشّيخ عيسى قاسم، في ذلك الوقت، كان صريحاً في رفضه لهذا الدّور الأمريكي، وأبدى مواقف علنيّة في الحذر من التّعاطي معه.
رغم ذلك، حافظت المعارضة على خطوط اتصالٍ مع الأمريكيين، ولم تنقطع زيارة السفير الأمريكي ومسؤوليها إلى مجالس الوفاق، رغم “الحادثة” غير المسبوقة بطرْد النّظام الخليفي للمسؤول في الخارجية الأمريكيّة، مالينوفسكي، قبل عامين، إثر لقائه قيادات الوفاق في مقرّ الجمعيّة. إلا أنّ هذه الزّيارات لم تنقطع، وآخرها قبل أيّام من الإعلان الخليفيّ عن غلْق جمعية “الوفاق”، حيث التقى عبد الجليل خليل علناً مع مسؤولين من السفارة الأمريكيّة.
على المستوى الأمريكي، لم “تبخل” الإدارة عن التعبير عن قلقها من الأحداث التصعيديّة في البلاد، وأظهر “الناطقُ” باسم الخارجيّةِ الأمريكيّة دعواتٍ متكررة للكفّ عن التعرُّض لـ”الجمعيات السّياسيّة”، والعمل على “إنجاح المصالحةِ الوطنيّة” التي تضمن “تحقيق أهداف الشّعب كلّه”. وكان ذلك مع خطّ متّصلٍ ومترافقٍ مع موجات القمع الخليفيّة، والتي لم تتوقف رغم هذه المواقف الأمريكيّة، بما فيها امتعاض الرّئيس الأمريكي نفسه، باراك أوباما، مع التعليق الجزئي لجمعية الوفاق قبل خمس سنوات، وهو الأمر الذي استدعى النّظام لأن يتراجع، جزئياً، عن خطوة إغلاق الوفاق، ولكنّه استمرّ في موجة القمع، وباطّرادٍ وشراسة، وصولاً إلى اعتقال الشّيخ علي سلمان والحكم عليه، والعودة لاستهداف “الوفاق” بالإغلاق، والإمعان في الذّهاب بعيداً باستهداف الوجود الأصيل للسكان الأصليين، ومن بوابة الوجود الدّيني، الذي يمثّل موضوعا حسّاساً للرموز الدّينيّة في البلاد.
وفي حين كان التواطوءُ البريطاني مكشوفاً، وكان دعم حكومة لندن لـ”منظومة القمع” بلا حدود؛ فإنّ الأمريكيين اعتمدوا سياسةَ “التلاعب المزدوج”، وقد أبدت السفارةُ الأمريكية في البحرين نفسُها هجوماً على قيادات الثّورة، وعبّرت عن “لا مبالاة” إزاء كلّ السياساتِ التّصعيدية التي استهدفت المعارضة، وتحديداً “الوفاق”، وخاصة بعد إعلانها مقاطعة الانتخابات في 2014م. وشكّل التّراخي، بله التواطوء الأمريكي الضمني، علامةً على عدم الوثوق بـ”التدخّل” الأمريكي لجهة “الإنقاذ السياسيّ”، والنّظر إلى كلّ بروز للأمريكيين في المشهد السياسيّ المحلّى على أنّه “نذير شؤم” قد يتّبعه تصعيد “أقسى” يُشبه النّيران التي تصاعدت من دّوار اللؤلؤة بعد هجوم قوات آل سعود وآل خليفة عليه وسحْق المعتصمين فيه.
هل يمكن، بعد ذلك، أن يتقدّم الأمريكيّون بـ”خطوةٍ إيجابيّة” لرفْع يد آل خليفة عن ارتكاب “الجريمة الأخيرة”، وتحديدا بحقّ الشّيخ قاسم؟ يعرف الأمريكيّون وجهة نظر الشّيخ قاسم حول سياستهم، وهم مطّلعون منذ زمن على الرّمزيّة المرجعيّة التي يمثلها الشّيخُ قاسم للتّيار العريض المؤمن بشعار “الموت لأمريكا” والأيديولوجيا الثّوريّة ضد “المشروع الأمريكي” في المنطقة. وهي رؤية تتكرّر دوماً في البلاد، وخاصة في مناسبة إحياء “يوم القدس العالمي”.
رغم ذلك، فإنّ “المصلحة الأمريكيّة”؛ تظّل هي المؤشّر المرجعي لسلوك “الأمبرياليّة”، ومن الأرجح أن هذه المصلحة لا تزال تتراوح بين مسارين: مسار القمع المتدرّج المفضي إلى خنْق المعارضة “السّياسيّة”، ولكن دون قتْلها ومحْوها نهائياً، وبين مسار النأي عن الدّخولِ المباشر، ومتابعة “الورطة الخليفيّة” حتّى نهايتها، ثم اختيار الوقت المناسب للظّهور بالمسرحيّة المعهودة التي يجيدها جون كيربي، المتحدّث باسم الخارجيّة الأمريكيّة، وهي مسرحيّة يختار كيربي الظّهور فيها بزيّ عسكريّ تارة، وزيّ مدنيّ تارة أخرى، وبحسب طبيّعةِ المسرحيّة ودور البطولة فيها.
البحرين اليوم-