هناك اعتقاد شائع أن الاتفاق النووي كان صفقة إجرائية وليس تحولا. وبعبارة أخرى، كان اتفاق أخذ وعطاء: تتخلى إيران عن العناصر الحاسمة لبرنامجها النووي، في مقابل عودتها إلى العالم متحررة من العقوبات. بما يعني أن السياسات الخارجية والسلوك العام لطهران لم يكونا مطروحين على الطاولة من البداية.
ضمن هذا الإطار يمكننا أن نقول أن الصفقة حققت أهدافها الإجرائية. ومع ذلك، فإن هذا النهج يثير مسألتين:
أولا: أنه من المستحيل فصل أي إجراء عن تأثيره في مجال السلوك. الصفقات هي مهام إجرائية، ورغم ذلك فإن تأثيرها لا يظل محصورا في حدود الإجراءات التقنية. على سبيل المثال، فإن مكاسب إيران من الصفقة عبر رفع العقوبات سوف يكون لها تأثير عميق على سلوكها. اختزال الاتفاق إلى كونه صفقة إجرائية هنا هو أمر خاطئ.
ثانيا: وعلى ذلك، فإن فصل الجانب الإجرائي من الاتفاق عن آثاره التحويلية، كما فعلت إدارة «أوباما»، يجب أن يخضع لتحليل نقدي. كان يجب أن يتبع الاتفاق استراتيجية واضحة الرؤية لاحتواء أي تداعيات سلبية، وتحفيز أي تغييرات سلوكية إيجابية نتيجة للصفقة. ولكننا لم نشهد أي خطة أو استراتيجية، ولا أي استعدادات لتغييرات محتملة في السلوك أو أي محاولة لشرح كيفية احتواء الولايات المتحدة لأي تغيير سلبي محتمل.
من الصعب أن نلمس أي بقعة حسنت فيها إيران مواقفها سواء في المنطقة أو العالم. ومع ذلك، فقد بدأ المدافعون عن الصفقة في الترويج لـ«الوعد» الذي سيغير سلوك إيران في مرحلة ما في المستقبل. يمكن لهذا السلوك أن يتغير أو لا يتغير في أي لحظة في المستقبل الموعود. ولكن ما هو مؤكد أنه لن يتغير بمفرده. وعلاوة على ذلك، لماذا يجب على أي شخص أن يكون على يقين من أن ذلك التغيير سوف يكون نحو الأفضل؟
إيران ليست ألمانيا عام 1938، لكن خلاصة القول هي أن اتفاق ميونيخ جاء بنتائج كارثية على كل أوروبا. لا تنتج الصفقات في حد ذاتها نواتج إيجابية بمعزل عن النوايا. ألا تبدو العراق شبيهة بالسوديت (إقليم غرب تشيكوسلوفاكيا كان موطنا للنزاع بينها وبين ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية) في عام 1938؟ أليست سوريا أو على الأقل جزءا كبيرا منها كذلك؟ اتفاقات الإجراءات لا تظل أبدا قاصرة على الإجراءات.
ما يتعين على الإدارة الأمريكية المقبلة أن تفعله هو أن تتأكد أنها قادرة على احتواء السلوك الإيراني السلبي، في ذات الوقت الذي تحافظ فيه على الجانب الإجرائي من الاتفاق وتعزز خطوات طهران الإيجابية. يجب أن تتحرك الإدارة المقبلة إلى صفقة كبرى ثانية مع إيران بخلاف الأولى التي وقعتها هذه الإدارة. وفي حين ركزت الصفقة الأولى على الجانب الإجرائي، فإن الصفقة الثانية ينبغي أن تركز على الجانب التحويلي، أي سياسات إيران الإقليمية والعالمية. وينبغي أن تستند على عناصر مدروسة تعزز السلوك الإيجابي وتعاقب على أي سلوك سلبي.
ومن الواضح أنه من السهل قول ذلك مقارنة بالقيام به. ولكن من أجل القيام بذلك، دون الرجوع إلى آلية عقوبات شاملة، ينبغي وضع خطة واضحة مع حزم للثوابات والعقوبات. ولكن هذا النهج يصف نهاية العملية. تستند العملية نفسها إلى خفض المخاطر والتوقعات من أي تكتيكات ضغط تقوم بها إيران للحصول على عائدات مبالغ فيها نظير امتثالها للمعايير الدولية. وبعبارة أخرى، فإن اسم هذه العملية هو الردع. وينبغي أن يقترن هذا الردع بعروض للتوصل إلى اتفاق يركز على سياسات طهران الإقليمية والعالمية.
يقوم الردع بالأساس على وجود استراتيجية رادعة. هدف هذه الاستراتيجية ليس تهديد إيران، ولكنه إقناع المتشددين بتغيير سلوكهم واحترام القوانين العالمية، من خلال إظهار أن أي مغامرة يقومون بها في الشرق الأوسط، أو في أي مكان آخر، سوف تأتي بثمن مكلف.
ولذلك، يبدو من الجيد النظر في استراتيجية ذات مسارين في التعامل مع إيران: من ناحية، الشروع في بنية الردع إلى جانب إظهار التصميم على المواجهة الحازمة لأي مغامرات تخريبية من قبل الحرس الثوري الإيراني. من جانب آخر، يجب السماح لإيران بالاندماج في المجتمع الدولي ليثبت لشعبها وقادتها فوائد احترام القوانين الدولية.
هذا النهج لديه بعض المحاذير والتداخلات الهامة. كمثال على ذلك، من أجل الحد من استفزازات الحرس الثوري الإيراني، فإنه يجب دائما أن نثبت للإيرانيين أن هذا السلوك السلبي لن يعود بالنفع على البلاد. يجب أن يتم ربط رفع العقوبات المحدودة التي لا تزال قائمة بالسياسات الإيرانية، وأن يتم تصميم العلاقات الاقتصادية لتعزيز دور القطاع الخاص في إيران، وليس مصالح الحرس الثوري.
السلوك الاستفزازي للحرس الثوري الإيراني له جذور في بنية السلطة الداخلية. لذا فإن أي انتكاسة كبيرة بالنسبة إلى أولئك المتشددين في واحدة من المغامرات الخارجية سوف تسهم بشكل كبير في تعديل موازين القوى السياسية داخل إيران.
تقوم الاستراتيجية المزدوجة الجديدة أيضا على تعزيز العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط. عسكريا، فإن دول مجلس التعاون الخليجي قادرة على الدفاع عن دولها ومواجهة استفزازات الحرس الثوري الإقليمية. ولكن لا أحد يرغب أن ينزلق الجانبان، وخاصة في ظل حالة الشحن الحالية، إلى مواجهة مباشرة. حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى حرب إقليمية ملحمية.
تعزيز العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، وملء فجوة المصداقية التي تم إنشاؤها على مدى السنوات الـ16 الماضية، وإظهار التصميم على ردع سلوكيات الحرس الثوري هي عناصر هامة في سد الفجوة القائمة.
على الجانب الآخر من المعادلة، من المهم لدول مجلس التعاون الخليجي أن يفهموا أن الولايات المتحدة لديها قيودها ومصالحها الخاصة، بمعنى أن واشنطن ليست عضوا في مجلس التعاون الخليجي. يجب قياس التوقعات، وما هو مطلوب من الأميركيين يجب أن يتم معايرته وفق حساباتهم الخاصة للوسائل والأهداف.
وعلاوة على ذلك، ينبغي على بلدان مجلس التعاون الخليجي رأب الصدع في صفوفهم، وتنسيق مواقفهم الدبلوماسية، وأن يضعوا جانبا تلك الحساسيات التافهة ويتفهموا أن التجمعات المشتركة دائما ما تتطلب تقديم تنازلات. تعزيز الوحدة الخليجية كمجتمع فعال هي أمر أساسي لتسهيل مهمة القوى الصديقة في مساعدة المجموعة في بناء حائطها الدفاعي.
ولكن أي استراتيجية جديدة لإقناع إيران بإسقاط أوهام الهيمنة الإقليمية تتطلب من دول مجلس التعاون الخليجي إبقاء الخطوط مفتوحة مع إيران. ومن المعلوم أن هناك دفعة عالمية جديدة على وشك أن تبدأ بهدف وضع نوع من خطة لخفض التوتر بين العرب والإيرانيين. إذا كان ذلك الأمر جادا، فإن هذا المسار سوف يكون التعهد الدبلوماسي الأكثر أهمية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.
الموقف الأساسي للعرب لا يتعارض مع القوانين والأعراف الدولية. كل ما يريده العرب هو إيقاف إيران لسياستها التدخلية. وتقول إيران أنها ترفض أيضا التدخل. يقدم هذا التوافق الاسمي أرضية مشتركة، حتى ولو رسميا فقط، للتقدم إلى التفاصيل المعقدة والبقع الحمراء الإقليمية.
فمن الأفضل أن تبدأ هذه الجهود الدبلوماسية عاجلا وليس آجلا، إذا لم تكن بدأت حتى الآن. ما يحتاجه الشرق الأوسط حقا في الوقت الراهن هو السلام.
سمير التقي وعصام عزيز - ميدل إيست بريفينج - ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد -