فورين بوليسي- ترجمة شادي خليفة -
منذ نحو 20 عاما، عندما كنت طالبا في الدراسات العليا يعيش في القاهرة، قمت بنشر مقالة في صحيفة مقرها واشنطن تدعى «ميدل إيست إنسايت»، وكانت للمجلة سمعة راسخة بسبب عدد من المقابلات مع الأشخاص المهمين. ففي نفس العدد الذي كتبت فيه مقالتي، بعنوان «الجيل القادم من مصر»، كانت هناك مقابلة مع «جمال مبارك»، ابن الرئيس المصري «حسني مبارك»، والذي كان قد بدأ صعوده بالفعل على أنه وريث لكرسي الرئاسة بعد بضعة أعوام. ولكن «ميدل إيست إنسايت» اختفت بعد ذلك بشكل غامض.
ولم أكن أتذكر الصحيفة حتى انفجرت الأخبار حول ناشرها السابق «جورج نادر»، مؤخرا كرجل عالمي غامض، متورط في محاولة واضحة للتأثير سرا في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة. ويبدو أنه على مدى عقدين من الزمن، أصبح الرجل الذي يدير مجلة سياسية صغيرة، غير مربحة، ولكن ذات تأثير، قناة وصل بين ولي العهد الإماراتي «محمد بن زايد آل نهيان»، وولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، وبين أقرب دائرة لـ«دونالد ترامب»، قبل الانتخابات الرئاسية، بعد ظهور ذلك في تحقيقات المستشار الخاص «روبرت مولر».
وتعد قصة «نادر» مثالا آخر على الشراهة والجشع واستغلال النفوذ، الأمور التي أصبحت تبدو عادية في واشنطن في عهد «ترامب»، ولكنها تقدم أيضا نظرة إلى مشكلة أكثر استثنائية وغير مسبوقة، وهي قرار بعض أقرب حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط الاستفادة من مواردهم المالية في قضية مشتركة مع مجموعة من الحكومات للتأثير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. إنها مشكلة يمكن إرجاعها إلى صهر «ترامب» ومستشاره الأول «غاريد كوشنر».
الاستثمار في «ترامب»
ومن وجهة نظر قادة المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، و(إسرائيل)، ومصر، كان هناك سبب عقلاني لدعم «ترامب»، في محاولة للتأثير على نهج الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ حيث لم تعجبهم سياسة الرئيس السابق «أوباما» في الشرق الأوسط. وقد فهموا على الأرجح أن المرشحة الرئاسية «هيلاري كلينتون» كانت أكثر تشددا من الرئيس الذي عملت في إدارته كوزير للخارجية، لذا فإن السعوديين والإماراتيين والإسرائيليين كانوا قلقين من أنها ستكون ملتزمة بالاتفاق النووي الإيراني، وبالتالي ستتبع نفس سياسة «أوباما» تجاه إيران.
وكانوا يعتقدون أيضا أن «كلينتون» سوف تكون ودودة مع الإسلاميين. فلديهم إيمان كامل أنها مكنت صعود «الإخوان المسلمون» و«محمد مرسي» عامي 2011 و2012 في مصر. وبالنسبة لدول الخليج العربي، توفر مصر عمقا استراتيجيا، وكان «فقدها» لصالح «الإخوان المسلمون» عاصفة جيوسياسية كبيرة. وكان الإسرائيليون، لأسباب واضحة، قلقين للغاية بشأن تراكم السلطة السياسية الإسلامية في البلد المجاور، وألقوا باللوم على إدارة «أوباما» في تخليها عن «حسني مبارك»، مما وضع أمن (إسرائيل) في خطر.
ومع «ترامب»، حصل حلفاء واشنطن على مرشح ورئيس أشار إلى الاتفاق النووي الإيراني بأنه «أسوأ صفقة على الإطلاق»، وأحاط نفسه بأشخاص لا يميزون بين «القاعدة» و«الإخوان»، أو يكرهون ببساطة الإسلام، وبصورة صريحة، أعلن أن الولايات المتحدة تدعم أصدقاءها في الحرب ضد الإرهاب. وهو أيضا لا يهتم كثيرا بحقوق الإنسان أو الحاجة إلى الإصلاح السياسي. وبالنسبة لهم، بدا هذا أفضل بكثير من التعامل مع الفوارق الدقيقة والتعقيد الذي كان سمة مميزة لإدارة «أوباما».
وبالطبع، حتى لو كان لرئيس أمريكي وجهة نظر تتشابه مع حليف معين في العالم، فإن الدبلوماسية لا تتوقف. وتعتبر مهمة السفراء ووزراء الخارجية وغيرهم من ممثلي الحكومات الأجنبية هي إبقاء الولايات المتحدة إلى جانبهم. وتقليديا، يتم ذلك من خلال مناقشات رسمية مع مسؤولين أمريكيين في وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الدفاع، واجتماعات مع أعضاء الكونغرس، وكتابة مقالات افتتاحية في وسائل الإعلام المؤثرة، والقنوات غير الرسمية للتأثير، ولاسيما دائرة واشنطن الاجتماعية، وحفلات حدائق السفارات، وأحداث اليوم الوطني، وما شابه ذلك؛ ولا شك في أن هناك الكثير من هذا قد حدث خلال العام الأول ونصف العام من إدارة «ترامب». لكن كما نعلم الآن، كان هناك جهد مواز غير شرعي للتأثير على السياسة الخارجية الأمريكية، وكان «جورج نادر» في قلبها.
ووفقا لصحيفة «نيويورك تايمز»، قام «نادر» و«إليوت برويدي» بوضع مخطط لحكومة الإمارات والسعودية، حيث استخدم «برويدي» اتصالاته المكثفة في واشنطن، خصوصا في البيت الأبيض، لتشكيل السياسة الأمريكية تجاه قطر.
ويتهم الإماراتيون قطر بدعم «الإخوان»، وتمويل التطرف، والعلاقة الودية مع إيران. وعلى ما يبدو، وافق الإماراتيون على هذا الترتيب. ومن الواضح أن دق المسامير في نعش أمير قطر، «تميم بن حمد آل ثاني»، كان يحظى بأولوية عالية لدى أمراء الرياض وأبوظبي، الذين لا يعتذرون عن استخدام كل الوسائل والموارد المتاحة لهم لتعزيز مصالح بلدانهم، ولكن ما هو عذر إدارة «ترامب»؟
بيع النفوذ
ويمكن إرجاع هذا النوع من بيع النفوذ، الذي شارك فيه «نادر» و«برويدي» إلى «كوشنر»؛ ففي 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، إن لم يكن قبل ذلك، كان «كوشنر» يوزع رقم هاتفه الخلوي على جميع أنواع الناس في واشنطن، مع القليل من الاهتمام بالعواقب المحتملة. وكان «كوشنر» في الأساس يفتح الباب أمام ثقافة ترامبوية لا يوجد فيها عملية رسمية، ولا يوجد تدقيق، ويصبح أي شخص قابل الاستفادة منه، وهناك دفيها ائما طرق للقيام بشيء ما مهما كان غير منطقي.
ولا يعمل عالم «ترامب» بنفس الطريقة التي يعمل بها حلفاء واشنطن الشرق أوسطيين الرئيسيين، ولكن هناك بعض أوجه التشابه التي تجعل قصصا مثل قضية «جورج نادر» ممكنة. ويتواءم ميل «ترامب» إلى تجنب العمليات والإجراءات الرسمية للحكومة مع طريقة تداول السلطة غير الرسمي، والأعراف غير المعد لها، وإدارة الحوكمة والسياسة بالخبرة الشخصية، مثلما يحدث في أماكن مثل السعودية والإمارات ومصر و(إسرائيل). وكان استعداد «كوشنر» لتسليم أرقامه إلى أي شخص إشارة إلى أن فريق «ترامب» كان منفتحا على فعل أشياء مختلفة بشكل كبير عن الإدارات السابقة، وقد استغل ذلك حلفاء الولايات المتحدة إلى جانب أشخاص مثل «نادر» و«برويدي»؛ وكانت النتيجة عقد بقيمة 650 مليون دولار لشركة «برويدي» للأمن، بعد أن أثر على قرار الرئيس وآخرين بشأن القيادة القطرية.
ومن وجهة نظر العواصم الشرق أوسطية، في واشنطن «ترامب»، فإن وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي لا لزوم لهما، ويمكنك الذهاب إلى أي أمر من خلال «كوشنر» بسهولة. وتطور الأمر لاحقا للتورط في مخطط «نادر-برويدي» لمحاولة لبيع السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما يحقق فيه «مولر». ويختلف هذا بالتأكيد عن بيع العقارات، العمل الأصلي لـ«كوشنر».