الخليج أونلاين-
تسببت جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، قبل عام من الآن، بعزلة دولية كبيرة للسعودية، وعلى الأخص لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي حضر في أغلب العواصم الغربية عبر تماثيله ومجسماته الملطخة بالدماء.
وأدت جريمة خاشقجي المروعة، التي ارتكبها فريق أمني مقرب من بن سلمان، لإبعاد الأخير عن مراكز صنع القرار في العالم، خصوصاً أن الراحل صحفي له سمعته في الأوساط والدوائر الإعلامية الكبرى، وكان يكتب في "واشنطن بوست"، إحدى أشهر الصحف الأمريكية.
عام من العزلة
وأكّدت صحيفة "الغارديان" البريطانية، يوم الخميس (3 أكتوبر 2019)، أن القيادة السعودية تعيش عزلة دولية منذ واقعة اغتيال خاشقجي.
وقالت في تقرير لمارتن شولوف، حمل عنوان "تداعيات قتل خاشقجي بوحشية ما زالت مستمرة بعد عام من رحيله": إن قتل خاشقجي "خلف تأثيراً استثنائياً في منطقة معتادة على الأعمال الوحشية"، مضيفة: إنه "من النادر أن يكون موت رجل واحد على هذا القدر من التأثير".
وأوضح الكاتب أنه عندما دخل خاشقجي إلى مقر القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث قُتل في أكتوبر 2018، كانت بلاده تتمتع بلحظة من الشهرة على الساحة الدولية، حيث كان ولي العهد السعودي "قد بدأ رحلته في إصلاح المملكة، وبدأ من يتشككون فيه يصدقونه".
وأضاف أنه في ذلك الحين كان زعماء مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، يريدون أن "يُشاهَدوا بصحبته"، ولكن هذا تبدل تماماً بمقتل خاشقجي.
واستطرد شولوف قائلاً: إن "وحشية عملية القتل كانت مسجلة، وأطلعت السلطات التركية قادة العالم على فحوى التسجيلات والتفاصيل المصاحبة، وهو ما أماط اللثام عن عملية قتل متعمد عن سبق الإصرار تشبه عمليات التصفية التي تمارسها العصابات".
وتابع: "لم يستغرق الأمر طويلاً لربط البلاط الملكي بعملية القتل، وما زالت وصمتها مستمرة بعد مرور عام، على الرغم من نفي ولي العهد، محمد بن سلمان، الضلوع في قتله".
وأشار الكاتب إلى أن تبعات قتل خاشقجي ما زالت في المنطقة؛ فقد بقي "الأمير (بن سلمان) يعاني العزلة عن العالم بصورة كبيرة، بالإضافة إلى هذا فقد تبدل الثناء الذي كانت تحظى به إصلاحاته إلى الغضب والإدانة".
من جانب آخر يقول الكاتب إن زيارة ترامب الرسمية إلى المملكة، عام 2017، "كانت إيذاناً بعودة تركيز الولايات المتحدة على السعودية كحليف رئيسي في المنطقة، بعد أن كانت الدفة قد مالت صوب إيران إبان حكم الرئيس السابق، باراك أوباما. ولكن في نظر خصوم السعودية أخرج مقتل خاشقجي الأمير بن سلمان عن مساره".
وختم الكاتب المقال قائلاً: إن "جهود بن سلمان لتحويل نفسه لرجل دولة قد أخفقت بعد مقتل خاشقجي، وقد لا تتعافى هذه الصورة أبداً"، معتقداً أن ذلك "سيظل معلماً بارزاً ولحظة فارقة في حياة ولي العهد السعودي، وعلى الرغم من أنه من المرجح أن يعتلي العرش بعد وفاة والده، الملك سلمان بن عبد العزيز، لكن من غير المرجح أن يصبح زعيماً للمنطقة، كما كان يأمل".
ليس متروكاً في واشنطن
ورغم أنّ الرئيس ترامب من الداعمين الواضحين لمحمد بن سلمان عالمياً، فإن المؤسسات الأمريكية، وفي مقدمتها "الكونغرس"، بقي أعضاؤها من مشرعين ونواب ينتقدون بشكل لاذع سياسة ترامب المتراخية تجاه المملكة، وبالأخص بن سلمان، وإن كانت موجودة بين حين وآخر بسبب انتهاكات الرياض في حرب اليمن، إلا أنها زادت بعد جريمة خاشقجي بشكل كبير.
كان آخر ذلك يوم حلول ذكرى الاغتيال، الأربعاء 2 أكتوبر 2019، عندما انتقد أعضاء في الكونغرس الأمريكي ترامب لعدم اتخاذه الخطوات المطلوبة بخصوص جريمة خاشقجي.
وفي مؤتمر صحفي لكل من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، ورئيس لجنة الاستخبارات في المجلس آدم شيف، أكد عضوا الكونغرس أنهما سيبذلان جهدهما من أجل إحقاق العدالة، موجّهين انتقادات إلى الرئيس ترامب بهذا الصدد.
بدوره كتب السيناتور تيم كاين، عبر حسابه على "تويتر" في ذات اليوم: "مر عام على قيام حكومة السعودية بقتل جمال خاشقجي، لأنه كشف عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والرئيس ترامب لم يضمن أن تحاسب السعودية على ذلك، وقوض حرية التعبير التي دافع عنها خاشقجي"، لافتاً إلى أنه طلب، في يوليو الماضي، من مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" فتح تحقيق في الجريمة، معرباً عن أمله في أن يجري المكتب تحقيقاً شاملاً حول مقتل شخص يعيش في ولاية فيرجينيا.
وكذلك فعل عدة مشرعين في مجلس الشيوخ وأعضاء في مجلس النواب، وهو بطبيعة الحال يزيد من العزلة الدولية ضد ولي عهد السعودية، ويجعله بعيداً أكثر عن مراكز صنع القرار الدولي، وضاعف ذلك أن تقرير "سي آي أيه" أشار صراحة إلى تورط "الحاكم الفعلي للسعودية" في إعطاء القرار لاغتيال خاشقجي.
حرج إسرائيلي
كما سببت جريمة خاشقجي والعزلة الدولية أيضاً استياءً داخل "إسرائيل"، التي كانت تعول على بن سلمان، ليس فقط في علاقة "تل أبيب" السرية مع المملكة، ولكن أيضاً في الجهود الدولية لإبقاء إيران تحت المراقبة، بحسب صحيفة " تايمز أوف إسرائيل".
وقالت الصحيفة في تقرير نُشر، في 23 أكتوبر 2018: "كان القادة الأمريكيون والإسرائيليون يأملون في أن يكون بن سلمان وتصرفه المؤيد لإسرائيل ظاهرياً مساعداً في دفع الفلسطينيين إلى تنازلات ضرورية من أجل السلام".
وأضافت أنه "بالنسبة لإسرائيل الوضع أصعب إلى حد ما؛ من ناحية لا تريد أن ترى موقف الرياض في المنطقة يتضاءل لصالح طهران، أو أنقرة، ومن ناحية أخرى على إسرائيل أن تحرص على ألا يُنظر إليها على أنها الناطقة باسم الرياض في الولايات المتحدة وأوروبا".
ولفتت إلى أنه سيكون لذلك تأثير سلبي كبير على "إسرائيل"، ليُنظر إليها على أنها المدافعة عن بن سلمان بعد هذا الأداء الوحشي، والذي أعقبه عدة أسابيع من الكذب المستمر حول ما حدث في إسطنبول، مضيفة أن "كل ما تبقى لإسرائيل للقيام به هو الدبلوماسية الهادئة في محاولة للمحافظة على ما يمكن الحفاظ عليه فيما يتعلق بالتعاون الأمني مع السعودية".
مجسماتٌ دموية
في سياق متصل لم تتوقف الإدانات التي شنتها منظمات حقوقية ودولية مرموقة مثل "العفو الدولية"، ومجلس حقوق الإنسان، و"مراسلون بلا حدود"، وغيرها، ضد سياسة المملكة تجاه قضية خاشقجي وغيرها، وحمّلت كل المسؤولية في الجريمة لولي العهد؛ بحكم أنه القائد الفعلي للبلاد، ولا يمكن تصور ارتكاب جريمة بهذا الحجم دون علمه.
ولم يستطع بن سلمان زيارة أي دولة أوروبية أو الولايات المتحدة خلال العام الماضي، بل كانت تماثيله الملطخة بالدماء حاضرة بقوة، وصوره التي تشبه "مصاصي الدماء" الأكثر انتشاراً في الساحات الرئيسية التي نُظمت فيها وقفات تضامنية مع خاشقجي، ومطالبة بقطع العلاقات مع الرياض.
كما كان بن سلمان مرفوضاً شعبياً في العالم العربي؛ فقد خرجت مظاهرات كثيرة ونظمت وقفات متعددة شكلت صفعة قوية له خلال الأشهر الأولى من ارتكاب الجريمة.
كما عُبر عن الرفض الشعبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وصف بن سلمان بعبارات عدّة؛ فقد أطلقوا عليه لقب السفّاح والمجرم، في حين كان "أبو منشار" اللقب الأكثر شيوعاً الذي صار يرافق صوره التي يحملها متظاهرون.
هذا اللقب أُخذ من "المنشار" الذي كُشف عنه في تحقيقات حول جريمة اغتيال خاشقجي، حيث جرى تقطيع جثّته على يد فريق الاغتيال السعودي، ولا تزال مختفية حتى اللحظة.
التونسيون ردّدوا في مظاهراتهم أثناء زيارة بن سلمان، في 27 نوفمبر الماضي، هتافات قوية؛ على غرار "بن سلمان يا غدّار ارفع يدك عالأحرار"، و"بن سلمان القاتل لا أهلاً ولا سهلاً"، و"شعب مواطنين.. تونس ليست للبيع"، و"الشعب يريد طرد بن سلمان".
وسبق معارضون وصحفيون مصريون زيارة بن سلمان لبلدهم بالإعلان عن رفضهم للخطوة، في حين شارك نشطاء في إبداء الرأي الرافض عبر التعليق من خلال وسم اشتهر كثيراً وحمل عنوان "#زيارة_المنشار_عار".
كما أدينت الجريمة في الجزائر التي شهدت رفضاً كبيراً شعبياً ومن الأحزاب السياسية في البلاد، وكذلك كان الحال في موريتانيا التي رفضت حضور ولي العهد، معتبرة أنه "سفاح وقاتل".
وزاد من الضجة العربية ضده إحراق صوره وصور أبيه الملك سلمان في مسيرات العودة بقطاع غزة، حيث جاء ذلك تعبيراً من قبل المتظاهرين عن رفضهم للدور "المشبوه" الذي تؤدّيه السعودية وولي عهدها لتصفية القضية ضمن مخطّط "صفقة القرن"، وهي صفقة تعتزم إدارة ترامب طرحها قريباً لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ويتردد أنها تقوم على تنازلات مجحفة بحق الفلسطينيين فيما يتعلق بالقدس وحق العودة للاجئين.