أحمد شوقي- راصد الخليج-
هل تذكر قصة الرجل الجشع، فائق الغباء، الذي رزقه الله دجاجة تبيض له كل يوم بيضة من ذهب، فصور له عقله المريض أن يذبحها ليحصل على ما بداخلها من ذهب دفعة واحدة.. فلم يجن شيئا إلا فقر الحال، وصار بقية عمره أسير ألم الندم المروع.
إذا لم تكن سمعت بتلك القصة -التي كانت خيالية- قبل الآن، فأنت مدعو لمشاهدتها، ومجانًا، في المملكة السعودية التي يصرّ حاكمها الحقيقي محمد بن سلمان على كتابة تاريخ جديد، يخلط فيه بين مصيبة عرب شبه الجزيرة العربية، ومأساة الهنود الحمر، ممن صدقوا الوعود الأوروبية بالصداقة، فحصدوا الإبادة الكاملة من صفحات الكوكب.
بعيدًا جدًا عن السياسة، المعرضة لتقلبات حادة، والتي لا تخضع بطبيعتها المتحركة والسيالة لمعادلة تحكم أو مؤشر يقيس، فنحن أمام وضع اقتصادي ينطبق عليه وصف "الدجل"، ويقوم عليه دجالون عصريون يرتدون أحدث صيحات الموضة والأزياء، ويتحدثون لغة الغرب وبلسانه، وتتألق حولهم أضواء الكاميرات، ويتلفظون بالغريب المنسي من الكلمات، التي تبدو مضخمة وتحمل معان قادرة على تغيير البلاد والعباد، وهي في حقيقتها طبل أجوف، لا يطرب ولن يغني من كارثة قادمة، وقريبة.
"أرامكو" هي عنوان الفصل الجديد من الضياع السعودي، بعد أن كانت اليمن طوال خمس سنوات تمثل التيه للنظام الحاكم وحلفائه العرب، ونسفت كل إمكانات العبور إلى عصر ما بعد النفط اعتمادًا على موجودات الصندوق السيادي السعودي، بعد انهيار الاحتياطيات والاستثمارات، وذهابها لتمويل مشتروات السلاح الهائلة، من الولايات المتحدة وأوروبا، والإنفاق على حلفاء محمد بن سلمان الإقليمين، وآخرهم سفاح السودان المخلوع بثورة شعبية هائلة عمر البشير.
إذًا قرر "بن سلمان" أن الوقت حان ليذبح الشركة الأكبر في العالم، التي تفوق قيمتها التقديرية شركة "آبل" الأميركية، بل وتتفوق أرامكو من حيث العائدات التي تبلغ ضعف عائدات عملاق التكنولوجيا الأميركي، حيث تبلغ عائدات "أرامكو" نحو 111 مليار دولار سنويًا، بينما لا تتخطى عائدات آبل نحو 60 مليار دولار فقط، وتفوق عائدات "أرامكو" صافي الأرباح لشركات النفط الخمس الكبري، إكسون موبيل ورويال داتش شل وبي.بي وشيفرون وتوتال، بمقدار الثلث.
الحوافز السعودية لم تتوقف عند عائدات هي الأضخم في العالم، بل زادت إلى منح الشركة إعفاءات ضخمة، إذ ستخضع لقانون خاص يجعلها تدفع ضريبة دخل بنسبة 20%، وهي نسبة تافهة، إضافة إلى ضمان حكومي لتوزيعات أرباح خيالية، تبلغ 75 مليار دولار العام المقبل، وقد تصل إلى 80 مليارًا، بحسب بيانات متتالية لأعضاء مجلس إدارة عملاق النفط، بما يضمن في النهاية الحصول على 4.4% عائدًا على السهم الواحد.
الحوافز التي ستجعل طرح "أرامكو" ناجحًا، بالفعل، هي أرقام الاحتياطيات الهائلة، ورخص تكلفة الإنتاج، إذ تبلغ الاحتياطيات نحو 260 مليار برميل من النفط المكافئ، أي أنها أكبر من الاحتياطيات المجمعة أضخم 6 شركات بترول في العالم، ويناهز العمر الافتراضي للاحتياطي نحو نصف قرن، طبقًا لبيانات الشركة المعلنة.
وتنتج الشركة سنويًا نحو 10 ملايين برميل من النفط الخام، بالإضافة لنحو 1.1 مليون برميل من الغاز الطبيعي المكافئ، و9 مليار قدم مكعب قياسية من الغاز الطبيعي يوميًا، وبفضل قرب الاحتياطي من سطح الأرض، تبلغ كلفة إنتاج برميل النفط الواحد نحو 2.8 دولار، وهي التكلفة الأرخص في العالم، وتخدم الشركة العملاقة بنية تحتية هائلة، تجعلها المنتج الأهم على الكوكب.
ورغم كل مقومات النجاح في الطرح، الذي يبشر حواريو "بن سلمان" إنه سيكون الأكبر في العالم، تبدو الصورة قاتمة من وجهة نظر بنوك ومؤسسات التقييم العالمية، وهي صاحبة القول الفصل حين يحل موعد الحقيقة، ويبدأ طرح الأسهم.
البداية من بنك "أوف أميركا"، وبنبرة تشاؤمية لافتة، قدر محللوه أن قيمة الشركة ستتراوح بين 1.22 و2.27 تريليون دولار، والفارق في التقييم يبدو هائلًا ومزعجًا في آن، تريليون دولار بالتمام والكمال، بما يفوق كل قيمة أكبر ثلاث شركات نفط بالعالم، إكسون موبيل ورويال داتش شل وشيفرون، وبالتالي قبلت الحكومة السعودية بتقييم يتراوح بين 1.6 إلى 1.8 نريليون دولار فقط، وهو تنازل لن يكون الأخير في قصة "أرامكو".
الفشل السعودي في ترويج الطرح بأي بورصة عالمية ألقى بظلال كثيفة من الشك حول نجاح الطرح، فالسوق المحلية ليست دليل قوة، وقد تكون دليل خوف من كشف حسابات الشركة للعالم، فقواعد الإفصاح والشفافية المفترضة منعت السعودية من طرح "دجاجتها الذهبية" للعالم، فكل مساهم سيكون له الحق في كشف حسابات الشركة، وكيفية إنفاق عائداتها الهائلة، والتصرف في أصولها واحتياطياتها، بما يجعلها في النهاية خارج سيطرة الأسرة المالكة السعودية تمامًا.
المملكة تريد خوض تحدي أرامكو بطريقة العصور الوسطى، أو طريقة مشايخ القبائل، بلا كشف أوراق على الطاولة، وأصغر مساهم في العالم لن يقبل مثل هذا الطرح المغرق في البلاهة والانكشاف، فقوا
عد المحاسبة والمسؤولية غائبة، كما هي مغيبة عن المجتمع السعودي، والدول لا تتقدم بهكذا مزيج خارج من صفحات التاريخ.
في النهاية فإن جوقة المنتفعين من ولي العهد يغازلهم الوهم أن نوعًا من الإصلاح يمكن أن يجري بمعزل عن الشعب، الناس، ويعاودهم الحنين إلى زمن "فيصل"، حين تسببت الطفرة البترودولارية ثم نكسة 1967، في تثبيت دور سعودي قوي ونافذ، بدا قادرًا على الفعل، بطول المنطقة وعرضها.
والحقيقة أن الانتقال إلى عصر جديد، لا يأتي به الوهم ولا يصنعه الحنين! ولسنوات طويلة مقبلة فإن ظلال حرب اليمن، واغتيال خاشقجي، والشرخ العميق في الموقف العربي، لن يتيح للمملكة أن تمارس دورها كما كانت تفعل في الماضي القريب، وحتى لو تسامح الحكام، فإن الشعوب لن تغفر.