رغم الكثير من الضجة المحيطة بتقدم السعودية في مجال حقوق الإنسان (ولا سيما حقوق المرأة)، وتجاوز ولي العهد "محمد بن سلمان" لقضية مقتل الصحفي "جمال خاشقجي"، إلا إنه يبدو أن المملكة تتجه نحو أيام أكثر قتامة.
سادت حالة من القلق بعد الأخبار الأخيرة المنتشرة على وسائل الإعلام حول عملية التطهير التي يديرها "بن سلمان" في الرياض، والتي تضمنت اعتقال أميرين بارزين، ولن يراقب أحد هذا عن كثب أكثر من الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب".
تطهير للمعارضة
وفي حين أن بعض الخبراء الذين يظهرون في وسائل الإعلام الغربية (يقيم معظمهم في واشنطن ويرأسون مراكز أبحاث تمولها الرياض) يُرجعون تلك الاعتقالات بشكل أساسي للملك البالغ من العمر 84 عامًا، فإن الحقيقة خلف اعتقالات الأمير "أحمد بن عبد العزيز" و"محمد بن نايف" هو أنهما من أهم الشخصيات المتبقية في الأسرة والتي تعارض "بن سلمان"، لذلك يُنظر إليهما على أنهما تهديد يجب التعامل معه مباشرة.
ومع ذلك، فإن اعتقالهما مثير للقلق.
لا يقتصر الأمر على إعادة التأكيد على جنون العظمة وهشاشة الحكم لدى ولي العهد، بل يُظهر أيضًا أنه لم يتم تعلم أي دروس من قضية "خاشقجي" حول كيفية رؤية العالم للمملكة.
لا تبشر الاعتقالات بالخير فيما يخص خطة السعودية لجذب الاستثمارات لتحديث البنية التحتية للبلاد في إطار "رؤية 2030" لــ "بن سلمان" - وهي خطة جريئة تكلف ما يقرب من نصف تريليون دولار - والتي أصبحت تبدو الآن كأنها مشروع يغرق في الرمال.
كما أن توقيت الاعتقالات مهم أيضًا، إذ يحدث في خضم حرب أسعار غير حكيمة على النفط مع الدول غير الأعضاء في منظمة "أوبك"، حيث تخطط السعودية لمزيد من الإنتاج، فيما يبعث الخشية بأن يؤدي ذلك إلى انخفاض سعر النفط الخام إلى أقل من 30 دولارًا، مع توقع بعض خبراء السوق لسعر 20 دولاراً للبرميل قبل نهاية العام.
تهديد لـ"ترامب"
سيناريو العشرين دولارًا للبرميل أمرٌ غير مرجح؛ لكن أسعار النفط المنخفضة يجب أن تكون مقلقة لكل من "بن سلمان" و"ترامب".
آخر ما ينقص "ترامب" مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، هو أزمة في السعودية، تجعلها إما معرضة لمزيد من الهجمات الإيرانية، أو لمزيد من السياسة المتعثرة لـ"بن سلمان"، إذ يمكن أن يضعف كلا الاحتمالين قبضته على البلاد أكثر.
يشير بعض المحللين بشكل صائب إلى أن هذه الأحداث تدل على نهاية تراتبية خلافة النخبة الحاكمة للعرش في المملكة وأن السلطة الموروثة - والغنائم - المشتركة بين أفراد العائلة المالكة مثل الأمير "أحمد" و"بن نايف" (ابن عم محمد بن سلمان وولي العهد السابق) قد انتهت.
علاوة على ذلك، لن نرى شقيقًا مسنًا يسلم العرش لأخ مسن آخر لأن "بن سلمان" عندما يصبح ملكًا سيضمن إنهاء هذا النظام، على الرغم من بقاء هيئة البيعة السعودية التي توافق على مثل هذه الأمور.
وهنا تكمن إحدى المشاكل.
صحيح أن المجلس نفسه قد دعم في السابق وصول "بن سلمان" إلى السلطة ونهاية النظام السابق، ما يسمح لحفيد في الأسرة بتولي العرش، لكن الأمير "أحمد" عضو في هذا المجلس، إلى جانب "بن نايف" المعروف أيضًا بأنه معارض لـ"بن سلمان".
بينما ظل "بن نايف" تحت نوع من الإقامة الجبرية وروقب عن كثب من قبل المسؤولين الأمنيين، لفت الأمير "أحمد" انتباه "بن سلمان" بسبب تعليقاته الصريحة عن ولي العهد في لندن.
يعارض الأميران "بن سلمان" في عدد من القرارات السياسية التي اتخذها، وتحديداً بخصوص الحرب في اليمن وحصار قطر، وكلاهما استراتيجيات كارثية قادها "بن سلمان".
مخاوف ولي العهد
لم تفاجئ تقارير هذا الأسبوع بأنهم كانوا جزءًا من انقلاب للإطاحة بـ"بن سلمان" المراقبين للشأن السعودي، فمنذ فترة طويلة (تصل إلى انقلاب القصر في عام 2017 الذي نصّب ولي العهد الشاب) اشتبه "بن سلمان" في أن كلاهما وراء محاولات لإبعاده.
في الواقع، ذهب بعض المحللين إلى حد القول إن احتجاز "خاشقجي" واغتياله في إسطنبول، يعود بشكل كبير إلى إحساس "بن سلمان" بانعدام الأمان.
أراد ولي العهد من أقرب مساعديه استخراج معلومات من الصحفي السابق حول ما إذا كان "بن نايف" يخطط لانقلاب ضده.
لقد أكدت لي مصادر قريبة من "بن سلمان" أنه كان هناك اعتقاد في ذلك الوقت بأن ابن عم "بن سلمان" لم يكن فقط جزءًا من مؤامرة للإطاحة به ولكن "خاشقجي" كان أيضًا جزءًا منها وكان بالتأكيد مطلعاً عليها.
ما الذي تغير؟
ببساطة، يعني هذا أن "بن سلمان" سيواجه أوقاتًا صعبة جدًا مستقبلًا، كما يعني أن الملك قد نظر في الأدلة ضد "المتآمرين" ووقع على مذكرات اعتقالهم.
الرسالة واضحة جداً من الملك "سلمان" إلى أي معارضين من الداخل: إذا كان بمقدورنا اعتقال هؤلاء الثلاثة، فهذا يعني أنه لا يوجد أحد محصّن.
وأصبح دعم الملك "سلمان" لابنه الآن مطلقاً.
لكن الكثيرين سيعتبرونه بمثابة عمل يائس من ولي العهد الشاب المشكوك في صفاته القيادية، بالنظر إلى قراراته الخاطئة بشأن اليمن وقطر و"خاشقجي"، ناهيك عن الاكتتاب العام المتأخر لـ"أرامكو".
ومع أنباء الاعتقالات المتتالية؛ من الطبيعي أن الكثيرين سيتكهنون بأن الملك "سلمان" يقترب من التنازل عن العرش بسبب سوء حالته الصحية وهذا التطهير هو قراره الأخير لترتيب شؤونه الداخلية، قبل أن يتنحى.
من المنظور السعودي؛ يتعلق الأمر إلى حد ما بترتيب شؤون المملكة قبل اجتماع مجموعة العشرين في نهاية العام في الرياض.
ولكن بشكل عام، فإن هذه الخطوة هي استمرار لحملة القمع التي تضمن ألا يكون لـ "بن سلمان" أي شخص يهدد سلطته، عندما يحين وقت تسليم الملك للعرش له، ويبدو أن هذا قد يكون عاجلاً وليس آجلاً، بالنظر إلى أن الملك "سلمان" يدعم هذه الخطوة.
من المرجح أن تستمر مثل هذه الاعتقالات كجزء من حملة القمع على الرغم من قلق الغرب وخاصة الولايات المتحدة، من فكرة أن "بن سلمان" سيصبح معزولًا تمامًا بعد توليه العرش قريبًا.
محاولة إطاحة مقصودة؟
الأكثر من ذلك، أن "بن سلمان" قد مضى في الاعتقالات على أساس أن الأميرين تورطا في محادثات مع شخصيات أمريكية حول انقلاب من شأنه أن يطيح به.
هل يمكن أن يكون ذلك قد أتى من "ترامب" نفسه، بالنظر إلى أن ولي العهد قد أوضح لمساعديه أنه قلق من عدم إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي؟
نظرًا للأوقات الصعبة المقبلة وعدم وجود سيناريوهات جيدة لما بعد الانتخابات الأمريكية فيما يتعلق بالعلاقات مع الرياض، لا ينبغي أن نفاجأ بأن "بن سلمان" يبحث عن شركاء جدد في المنطقة.
كانت روسيا بالتأكيد مرشحة لذلك إثر مبادرة للتواصل مع "بوتين" بعدما لم تحظ قضية "خاشقجي" بالدعم المطلوب الذي كان ولي العهد يأمله من "ترامب"، عبر تبرئة كاملة.
لا تتفاجأ في الأسابيع القادمة حين يتكهن المراقبون بأن الاعتقالات وحرب أسعار "الأرض المحروقة" مع روسيا بسبب إمدادات النفط، ستكون وراء الإطاحة بـ"ترامب" من منصبه.
مارتن جاي- انسايد ارابيا - ترجمة الخليج الجديد-