الخليج الجديد-
رب ضارة نافعة، هكذا يتحدث لسان حال دول الخليج، مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، للأسبوع الثالث على التوالي، دون بادرة تلوح في الأفق لوقف إطلاق النار.
وفي مقابل تضرر الكثير من الدول جراء ارتفاع أسعار الطاقة حول العالم، في ظل المخاوف من توقف إمدادات النفط والغاز الروسية، هناك دول استفادت اقتصاديا بشكل كبير من غزو أوكرانيا.
الملفت أن تلك المكاسب تأتي بعد عامين من الخسائر الفادحة، جراء جائحة "كورونا"، والتي هبطت بأسعار النفط إلى مستويات متدنية جدا، ما كبد المحفظة المالية لدول الخليج عجزا صارخا في موازناتها السنوية.
أسعار النفط
بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو، ارتفعت أسعار النفط بشكل قياسي، وصل بسعر برميل خام برنت إلى نحو 140 دولارًا الأسبوع الماضي، وهو أعلى مستوى منذ يوليو/تموز 2008.
وتعد السعودية أكثر الرابحين اقتصاديا من الحرب الدائرة بين موسكو وكييف، حيث يمثل قطاع النفط والغاز حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا للبنك الدولي.
وتفيد بيانات صادرة عن "أوبك"، بزيادة إنتاج النفط السعودي العام الجاري 2022، ليصل إنتاج المملكة إلى نحو 10.145 مليون برميل يوميا.
ووفق كبير الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، "مونيكا مالك"، فإنه "إذا بلغ متوسط سعر برميل النفط 100 دولار للبرميل أو أعلى، فمن المرجح أن تحقق السعودية فائضًا ماليًا كبيرًا بدلًا من العجز في الميزانية الذي بلغ 4.9% عام 2021".
وتتيح تلك الأسعار للمملكة، فائضا ماليا يعوض العجز في موازنة العام الماضي وقدره 85 مليار ريال (22 مليار دولار)، كما سيمكن الحكومة السعودية من تمويل المشاريع العملاقة مثل مدينة نيوم، وتوفير نفقات الحرب الدائرة في اليمن منذ سبع سنوات.
وشهدت السعودية عجزا في موازناتها بين عامي 2014 و2021 تخطى الـ400 مليار دولار، ما دفعها إلى الاقتراض واللجوء إلى الانفاق من احتياطاتها النقدية التي تراجعت من 125 مليار دولار في 2019، إلى 92 مليار دولار في 2020، إلى 70 مليار دولار في سبتمبر/أيلول 2021.
تدفق مالي
تتجه الإمارات كذلك لجني مكاسب كبيرة هي الأخرى من ارتفاع أسعار النفط من جانب، ومن استقطاب الأموال الروسية الهاربة من أوروبا والولايات المتحدة جراء العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، من جانب آخر.
ويشعر الروس أن أموالهم ستكون آمنة في الإمارات، مع رفض أبوظبي الانحياز لطرف على حساب الآخر من الحلفاء الغربيين وموسكو، الأمر الذي دفع أثرياء روس إلى تحويل بعض ثرواتهم من أوروبا إلى الإمارات لحمايتها من العقوبات الغربية.
ووفق دبلوماسيين غربيين تحدثوا لـ"رويترز"، فإن هناك تزايد في عدد الروس الذين سعوا في الأسابيع الأخيرة لإيجاد ملاذ لثرواتهم في الإمارات، بما في ذلك العقارات، فضلا عن تلقي شركات العملات الرقمية في الإمارات سيلا من الطلبات لتسييل عملات مشفرة بمليارات الدولارات، في إطار بحث الروس عن ملاذ آمن لثرواتهم.
أما قطر فقد رفعت شركة قطر للطاقة (حكومية)، العلاوات السعرية للشحنات الفورية لنفط الشاهين تحميل مايو/أيار المقبل نحو ثلاثة أمثال قيمتها، بعدما تجنب المشترون النفط الروسي خوفا من العقوبات الغربية.
وتدفع شركات التكرير في آسيا أعلى علاوة لخامات الشرق الأوسط بسبب زيادة الطلب وعلو تكاليف الاستيراد من الغرب.
وتلقت الأصول الاحتياطية الأجنبية لدولة الكويت دعما من صعود أسعار النفط، مرتفعة في يناير/كانون الثاني الماضي بنسبة 1.57% أو 712.8 ملايين دولار على أساس شهري، وفق بيانات بنك الكويت المركزي.
وتسعى البحرين هي الأخري للاستفادة من الأزمة، عبر إقرار قانون يزيد نسبة الاقتطاع إلى 2.5% من سعر كل برميل نفط خام يزيد سعره عن 40 دولار أمريكي لصالح صندوق احتياطي الأجيال القادمة، إذ أن ارتفاع أسعار النفط الحالية سيساهم في توفير إيرادات تغطي عجز الميزانية العامة البحرينية.
ويرجع ارتفاع احتياطيات المركزي العماني الأجنبية نتيجة تحسن أسعار النفط العالمية وتجاوزها 100 دولارا للبرميل، على الرغم من أن السلطنة منتج صغير للنفط بحجم إنتاج لا يتجاوز مليون برميل يوميا.
مكاسب سياسية
إلى جانب الأرباح المالية الضخمة التي ستجنيها دول الخليج من الأزمة الروسية الأوكرانية، هناك مكاسب جيوسياسية لا تخطئها العين، ولا يمكن تقديرها بثمن.
في غضون أيام، صار ولي العهد السعودي، الأمير "محمد بن سلمان" الذي كان منبوذا في السابق على خلفية التورط في مقتل الصحفي "جمال خاشقجي" أكتوبر/تشرين الأول 2018، قبلة لاتصالات غربية، في محاولة لدفعه لضخ المزيد من النفط، ولجم أسعار الذهب الأسود.
وعلى الرغم من نفى البيت الأبيض فشل محاولة إجراء اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي "جو بايدن" ووليي عهدي السعودية وأبوظبي، فإن واشنطن أوفدت "بريت ماكجورك" و"عاموس هوكستين"، وهما من كبار مبعوثي "بايدن"، إلى العاصمة السعودية الرياض، لمناقشة قدرة الخليج على ضخ المزيد من النفط.
ويستعد رئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون"، لزيارة للسعودية خلال أيام؛ لحض "بن سلمان" على المساهمة في تخفيف وطأة تداعيات العقوبات المفروضة على روسيا، بعدما أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة حظر الواردات النفطية الروسية.
وبشكل أكثر صراحة وبراجماتية، قال وزير الإسكان البريطاني "مايكل جوف"، في تصريح لشبكة "سكاي نيوز" الإخبارية: "علينا أن نعتمد على استيراد النفط من بلدان عدة لا نوافق على سجلها في مجال حقوق الإنسان"، في إشارة إلى السعودية التي نفذت قبل أيام أحكام إعدام بحق 81 سجينا في يوم واحد.
وترى الكاتبة البريطانية "لبل ترو" أن "هذا هو المكان الذي يمكن أن تستغل فيه دول الخليج أزمة أوكرانيا لصالحها، وربما تصبح واحدة من الفائزين الكبار في هذه الحرب"، بحسب صحيفة "الإندبندنت".
ويتفق معها المتخصص الأمني في كينجز كوليدج لندن،"أندرياس كريج"، قائلا لـ"بي بي سي": "يمكن للسعوديين أن يطلبوا نوعا من حزمة الصواريخ الشاملة التي يحتاجون إليها لإعادة التخزين أو الحصول على المزيد من الضوء الأخضر في ما يتعلق باليمن. وسيكون من الحماقة ألا يفعلوا ذلك عندما يكونون في مقعد القيادة".
نفوذ واسع
ومع تحول الأنظار إلى الرياض وأبوظبي، والترقب لسياساتهما النفطية، وقدرتهما على ضبط سوق النفط، يتحول العالم كذلك إلى الدوحة كمصدر آمن وبديل للغاز، وقبلة للدبلوماسية الفاعلة، التي يمكن أن تلعب دور الوساطة بين موسكو وكييف.
وتحمل زيارة وزير الخارجية القطري، إلى موسكو للقاء نظيره الروسي "سيرجي لافروف"، وربما لقاء الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، أهمية كبيرة، في ظل علاقات الدوحة الجيدة مع طرفي النزاع.
ويعزز غزو أوكرانيا دائرة الضوء العالمية حول قطر، باعتبارها طوق نجاة محتمل لإمدادات الطاقة، لاسيما بالنسبة لأوروبا، التي تستعد لإمكانية انقطاع إمدادات الغاز من روسيا بأي وقت، ما يعطي للوساطة القطرية قوة دفع أكبر، وتمددا لنفوذ الدوحة حول العالم.
جملة من المكاسب الاقتصادية والجوسياسية يجنيها الخليج عبر الحرب الروسية الأوكرانية،، تعوض خسائره خلال جائحة "كورونا"، وتمنحه فوائض مالية كبيرة، وتساعده على تنويع اقتصاداته دون فرض ضرائب جديدة، وتعيد له نفوذه السياسي في العلاقة مع الإدارة الأمريكية والعواصم الغربية.