مجلة “فورين بوليسي”-
نشرت مجلة “فورين بوليسي” تقريرا أعدته المعلقة المحافظة والزميلة البارزة وغير المقيمة في معهد أمريكان انتربرايز، دانييل بليتكا وتساءلت فيه عن النموذج القطري الحذر في تحركه بين القوى، العدوة والصديقة وإن بات نموذجا تحاول دول الخليج المحبطة من الولايات المتحدة تقليده.
وقالت إن الدولة الصغيرة، مضت ولوحدها في موازنة علاقاتها والمشي على عارضة التوازن بين الفاعلين الأقوياء. ففيها أهم قاعدة عسكرية أمريكية (العديد) وعقدت تحالفا مع الولايات المتحدة باعتبارها حليفا رئيسيا خارج حلف الناتو. وكل هذا مع احتفاظها بعلاقة جيدة مع إيران واستقبالها قادة حركة طالبان المصنفة إرهابية وتمويل شبكة الجزيرة التي تزعم الكاتبة أنها تدفع برسالة معادية لإسرائيل وأمريكا ومؤيدة لإيران والإخوان المسلمين.
وفشلت الجهود المتعددة لمعاقبة قطر على موقفها المتمسك ولو اسميا بعدم الانحياز، بشكل ذريع. وأدى نجاح قطر إلى تحولها لنموذج لبقية المنطقة.
وتمر منطقة الخليج المحبطة من السياسة الأمريكية المتأرجحة من المنطقة والشك من ديمومة الدعم العسكري الأمريكي لها بمرحلة تطلق عليها الكاتبة “قطرنة” الخليج وتحويط رهاناتها ضد القوة الأمريكية، مغازلة إيران سرا وعقد صفقات أسلحة وتجارية مع الصين وروسيا، والتصرف بخلاف ذلك مثل قطر. والدولة الوحيدة التي تحاول استغلال هذا لمصلحتها هي إيران.
وأشارت الكاتبة لعدد من العوامل أدت إلى تسريع موجة عدم الانحياز على الطريقة القطرية وبدأت بإدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي حولت اهتمامها عن المنطقة. وزاد التوجه في عهد خلفه دونالد ترامب الذي تبنى فكرة تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو ما عرف باتفاقيات إبراهيم والتي هدفت باستبدال اعتماد دول الخليج على الولايات المتحدة بتحالفات مع إسرائيل. وتوج هذا برغبة الرئيس جو بايدن إحياء الاتفاقية النووية الإيرانية.
وبالنسبة لشركاء واشنطن التقليديين، وبخاصة الإمارات العربية المتحدة والسعودية والبحرين، فكل شيء يتعلق بمسألة من يدافع عنها ضد إيران وجماعاتها الوكيلة. ففي أثناء إدارة أوباما كان الجواب واضحا في أذهانهم: الولايات المتحدة ستكون إلى جانبهم. لكن الكثيرين منهم رأوا أن إدارة أوباما كانت انحرافا عن المسار وعاد الأمل بعد انتخاب ترامب، لكن بدا من الواضح وسريعا أن أشد عدو لإيران في البيت الأبيض لم يتحرك ويدافع عن السعودية عندما تعرضت منشآتها النفطية لهجمات اتهمت طهران بها.
ولا حاجة للقول إن إدارة بايدن ورجالها من عهد أوباما ونائبه السابق والتي جعلت شجب السعودية عنصرا أساسيا في سياستها الخارجية، قوت الحاجة للتحوط من دول المنطقة. أما العامل الآخر لتبني دول الخليج، نموذج قطر، هي الأزمة المتشعبة من النشاط المناخي وتنويع إمدادات الطاقة العالمية. وأدى انتشار كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا لتشويه الأسواق بطريقة غير متوقعة، إلا أن التوجه العام كان واضحا منذ وقت.
ففي العام الذي سبق انتشار الوباء، كانت الولايات المتحدة مصدر للغاز الطبيعي وأكبر منتج للنفط في العالم. ولو أخذنا التطورات بالمقارنة مع النمو السكاني في أماكن مثل السعودية، والتقلب في أسعار النفط واحتياجات النفقات العامة، باتت معظم الدول في منطقة الخليج تتذمر حول مستقبل أمنها الاقتصادي. وفي عين هذه الدول، فالعدو الأول لها هو الرجل الذي تفاوض على الاتفاقية النووية يعمل الآن مسؤول المناخ في إدارة بايدن، وهو جون كيري.
وبالنسبة لعدد من قادة المنطقة الذين تحدثت إليهم الكاتبة، فقد حاول كيري إخضاع القوى السنية في الخليج من خلال رفع مكانة إيران، ويحاول الآن مواصلة الخطة عبر تدمير الدول المنتجة للنفط من أجل مكاسب غير مضمونة في المناخ.
وبلا شك فالتحولات التي طرأت على واشنطن قلبت حسابات حلفائها التقليديين في الخليج. وسارعت إيران لملء الفراغ. ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979 فقد حاولت دول الخليج وإيران التغزل ببعضهما بطريقة أو بأخرى. إلا أن تسامح دول الخليج مع خدع إيران في الخارج كان محدودا ولم تثمر المحادثات الثنائية أي تقارب. وكان واحدا من الأسباب هي مظاهر القلق الكبيرة للسعودية بشأن الهيمنة الإيرانية وطموحاتها بالمنطقة.
وجربت الرياض عددا من السياسات في محاولة منها لاحتواء التهديد الإيراني، بما في ذلك تقليد إيران في الثمانينات والتسعينات لدعم الجماعات الإرهابية والاستفادة منها مثل دعم القاعدة والاعتراف بحركة طالبان في أفغانستان وتصدير الوهابية المتشددة. إلا أن هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وضعت حدا لهذا النهج.
وفي ضوء الاختيار الذي دعا إليه جورج دبليو بوش في أعقاب هجمات 9/11 “إما معنا أو ضدنا” تخلت السعودية عن جهودها لبناء نسخة سنية من الجمهورية الإسلامية. وفي العقد الاول من القرن الحادي والعشرين بدأت السعودية بإعادة تشكيل نفسها وقيادة كتلة تدعمها أمريكا في مواجهة إيران وحاولت خنق كل محاولات دول الخليج تحسين العلاقات مع طهران، لكنها انتهت.
وضمت أول محاولات السعودية في مرحلة بعد أمريكا والإجماع الخليجي المعادي لإيران المقاطعة العبثية والحصار على قطر وكذا حرب اليمن الكارثية. وتقول الكاتبة إن محاولة الرياض تأكيد أولويات سياستها الخارجية، منع قطر من دعم المعارضة السعودية والإخوان المتشددين في الحالة الأولى. وفي الثانية وقف الهجمات الصاروخية التي تشنها الجماعة الحوثية التي تدعمها إيران، لها معنى لكن طريقة التنفيذ أدت لردود سلبية لدرجة أن الداعمين في البداية للخطوتين، بمن فيهم الولايات المتحدة تراجعوا. واكتشفت الإمارات أولا أن مستقبلا تقوده السعودية لم يعد محتملا. ولحق بها ولي العهد محمد بن سلمان في النهاية. وأصبحت السعودية الآن إلى جانب دول التعاون الخليجي، البحرين وعمان والكويت والإمارات وبالطبع قطر من الدول التي تبنت سياسة التحوط. وشملت علاقات أحسن مع روسيا والصين وانفتاحا أكثر للحديث مع إيران. ولعل أفضل مثال عن هذا التحوط التقارير التي تحدثت عن رفض السعوديين والإماراتيين تلقي مكالمات من البيت الأبيض الذي يحاول تخفيض أسعار النفط.
ومن الملاحظ أن قادة البلدين تحدثوا مع فلاديمير بوتين بعد غزوه لأوكرانيا. وهناك خطوات أخرى مثل شراء الإمارات مقاتلات تدريب صينية ومشروع الميناء الصيني قرب أبو ظبي (علق الآن) ومصنع لصناعة الصواريخ الباليستية في السعودية بدعم صيني. وبالطبع عدم التصويت في الجمعية العامة ضد قرار يعاقب روسيا على غزوها لأوكرانيا. ومن المنظور الإيراني، فقد خلقت الولايات المتحدة فرصة وكانت القيادة الإيرانية سريعة كعادتها في انتهازها.
وطالما عبر النظام الإيراني عن قلقه من فكرة المحاصرة، وفي الوقت الذي عملت فيه وبنجاح على زعزعة استقرار عدد من اللاعبين في المنطقة، سوريا ولبنان والعراق إلا أن جيرانها في الخليج استعصوا عليها. ووجدت إيران أن إثارة المشاكل الداخلية في أماكن مثل السعودية والبحرين لا تنجح. وكما اكتشفت القيادة الإيرانية أن تصدير عدم الاستقرار إلى جيرانها المزدهرين في الخليج هي وسيلة للحفاظ على الاستقرار، وهو ما دفعها لنهج لطيف وبنجاح مثير.
وخلال العام الماضي رعت حكومة بغداد الواقعة بين طهران وواشنطن، سلسلة من المحادثات السرية بين إيران والسعودية. وكانت المحادثات المتقطعة مدفوعة بالوهم، إلا أن بغداد حاولت الحفاظ عليها. وبنفس اللقاء حصل في طهران بكانون الأول/ ديسمبر لقاء على مستوى عال بين مستشار الأمن القومي الإماراتي والرئيس الإيراني. وعلينا ألا نفهم رغبة إيران بالمحادثات أو استعداد دول الخليج بالمشاركة فيها على أنها نقطة تحول. ولا تزال الإمارات والسعودية غير واثقة بإيران، فيما تواصل الأخيرة جهودها لإغضاب وإثارة جيرانها السنة. إلا أن إيران واصلت الحوار في وقت زادت فيه الفجوة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأقوياء بمجلس التعاون الخليجي والتي بدت واضحة عبر فشلها دعم إمدادات النفط التي دعت إليها أمريكا أو معاقبة روسيا على غزو أوكرانيا.
وعليه، فاستعداد طهران لكي تستفيد من محاولات الخليج تحويط نفسه هي استراتيجية ماكرة، وهي في حد ذاتها لا تعلم تحولا في طموحات إيران الشاملة ولا جماعاتها الوكيلة، ولكنها تؤكد استعدادها للعب اللعبة التي حصلت قطر على حقوق ملكيتها. وفي المدى القصير، فقد يقود هذا الاستعداد لتقليل مخاطر حرب الاستنزاف المفتوحة بين السنة والشيعة وتقوية هيمنة إيران على العراق ولبنان واليمن.
وبالنسبة للولايات المتحدة فهذا يعني خسارة الولايات المتحدة تأثيرها بالمنطقة. أما بالنسبة لقطر والعديد، فستظل لأمريكا قواعد عسكرية إلى جانب قواتها في البحرين والكويت والإمارات لكن الوجود العسكري هذا سيكون بدون ولاء اقتصادي أو سياسي. ومثلما اكتشف بايدن عندما طلب من السعودية وحلفائها مساعدته، فإن دول الخليج ستتخذ قراراتها بناء على ما يخدم مصالحها وليس أمريكا.