حسين إبراهيم-
بدأت أميركا تلوّح بخيارات متشدّدة حيال السعودية، مع التصاعد الكبير للأزمة بين البلدَين. خيارات من قبيل إسناد بعض المهمّات التي توكلها للمملكة، إلى دول أخرى في المنطقة تُبدي استعدادها للقيام بها، على حد تعبير قياديَّين في الكونغرس. وسيعني تَحقُّق ما تقدَّم، الخروج من التحالف مع الرياض، مع كل ما سيجلبه «اليُتم» السعودي، بعد عقود من الاستقواء بالأميركيين، من تغيير هائل للأوضاع في الشرق الأوسط
ماذا يعني احتمال فكّ التحالف بين الولايات المتحدة والسعودية بالنسبة إلى المملكة والعالم؟ مثل هذا السؤال صار من الملحّ محاولة العثور على أجوبة عليه، في ضوء الاعتلالات المتكرّرة التي تصيب علاقات البلدَين. الأكيد أن أميركا بدأت، منذ سنوات، التفكير البعيد المدى في تغيير موقع السعودية من سياستها في الشرق الأوسط. لكن هناك مَن يتشكّك إزاء قدرتها على تحقيق مثل هذا الهدف، والإطار الزمني الممكن له، ولا سيما أن أيّ خطوة من هذا النوع، تحتّم الحدّ من دور المملكة النفطي في العالم من طريق إيجاد مصادر بديلة للنفط والغاز، كما تفرض فكّ التشابكات الكثيرة في العلاقات بينهما. على أن المسؤولين الأميركيين لا يخفون أن السعودية صارت تمثّل، في كثير من الأحيان، عقبةً في طريق مصالح بلادهم؛ لكن أكثر ما يثير غضبهم، هو أنها تستخدم راهناً ما راكمته من ثقل عالمي خلال فترة التخادم المتبادل مع الولايات المتحدة، ضدّ الأميركيين. وعلى رغم أن الولايات المتحدة لطالما كانت الطرف الأكثر استفادة من العلاقات، فليس من عادة الأميركيين، ولا هي الحال بالنسبة إلى المستعمرين، أن يقبلوا التعامل بنديّة مع دولة تقبع تحت الوصاية، وخاصّة مع نظام مدمن على الحماية الخارجية ويحتاج دائماً إليها، فكيف إذا كانت المملكة تَستخدم ضدّهم سلاحاً ما كانت لتتمكّن منه لولا أن الولايات المتحدة هي مَن وفّرته لها، من خلال فرض عقوبات مديدة على قطاعات النفط في دول كثيرة، والمساعدة في تطوير قطاع الطاقة السعودي عبر الشركات الأميركية.
ما تريده أميركا هو التخفّف من عبء حماية النظام السعودي ومن دوره في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، عبر تعديل العلاقات بما يتلاءم مع مصالحها، وهي تبحث عن صيغ للقيام بذلك بالتراضي، ما سيعني، بالنسبة إلى الأخير، تركه على قارعة الطريق. وعلى هذه الخلفية، يعاند، ولا يجد أمامه غير سلاح النفط لإرغام الأميركيين على البقاء في التحالف، وقد يفرض عليهم الذهاب إلى أبعد من مجرّد مراجعة للعلاقات، نحو استعجال فكّ التحالف. فَلْنتخيّل أن النظام السعودي صار منبوذاً أميركيّاً، فهل يمتلك مقوّمات البقاء؟
أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند التفكير في احتمال كهذا، هو نظام صدام حسين الذي استُخدم، ومن ثم حُوصر وحُورب أميركيّاً، وصولاً إلى إسقاطه وإعدامه. وما يلوّح به الكثير من المسؤولين الأميركيين، ولا سيما بعض قادة وأعضاء اللجان المهمّة في الكونغرس، يدور حول عقوبات أميركية على المملكة، وصولاً حتى إلى الاستغناء عنها إنْ دعت الحاجة، وفق تحذير عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، الديموقراطي كريس ميرفي، الذي قال إن «هناك دولاً في المنطقة مستعدّة لتولّي بعض مسؤوليات السعودية».
ليس الوصول إلى سيناريو كهذا سهلاً؛ إلّا أن العلاقات بين البلدَين تسير في منحنًى انحداري مستمرّ منذ سنوات، ولم تنجح في تغييره إدارة دونالد ترامب، على رغم الخدمات الكثيرة التي قدّمتها للمملكة، وتحديداً لحاكمها الفعلي، وليّ العهد، محمد بن سلمان. لكن مثل هذا السيناريو - إذا توافرت له ظروف مناسبة -، ستكون له تأثيرات هائلة على الأوضاع في الشرق الأوسط، حيث ستتحوّل المملكة - بغياب الدعم الأميركي - إلى دولة هامشيّة ضعيفة غير قادرة على ممارسة النفوذ السياسي الذي تتمتّع به اليوم، وتساعدها فيه الفوائض المالية الضخمة الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، خلا العالم من الأعداء الإيديولوجيين الذين يمكن أن يمثّلوا تهديداً وجودياً لأميركا، وأصبح التهديد محصوراً في المصالح. وهذا ينطبق حتى على الصين وروسيا. لهذا، تبدو واشنطن مستعدة لنقل تحالفاتها من دولة إلى أخرى على أساس المصالح، بما في ذلك مع منَ يُعتبرون أعداء بالمعنى الإيديولوجي، مِن مِثل إيران وفنزويلا. فلا شيء يضير أميركا في النظام الإسلامي لإيران، إلّا بما يمثّله من تهديد لإسرائيل، وهو ما لا يرقى لتعتبره تهديداً لها، على رغم العداوة المتبادَلة. والأمر نفسه ينطبق على النظام الاشتراكي في فنزويلا.
في ضوء هذه الصورة، صار ما حدث بين واشنطن والرياض من انفلاش للخلافات في الأسابيع القليلة الماضية، هو السياق الطبيعي للأحداث، والتي أظهرت احتقاناً كبيراً قد يعود في جزء منه إلى وجود ابن سلمان على رأس السلطة في المملكة، إلّا أن أسبابه الحقيقية تكمن في تخلخل صيغة العلاقات نفسها. ومن الأمثلة على ذلك، ما نقله موقع «إنترسبت» الأميركي عن مصادر سعودية رفضت الكشف عن هويّتها لخشيتها من انتقام ابن سلمان، حول أن الدفع السعودي إلى خفض إنتاج النفط في اجتماع «أوبك بلس» الأخير، بواقع مليونَي برميل يومياً، فاجأ حتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، الذي كان غاية ما يتمنّاه هو الوصول إلى خفض بواقع مليون برميل. هذا فضلاً عن الإعلان الرسمي الأميركي عن أن الرياض أَرغمت دولاً كانت معارِضة للخفض، على التصويت لمصلحته، ثم أجبرتها على إصدار بيانات تؤكد وقوفها مع المملكة، للقول إن القرار اتُّخذ بإجماع أعضاء التحالف النفطي. ثم وسّعت الدائرة لتطلب من دول أخرى إصدار بيانات تضامن معها.
وعلى رغم أن السعودية تنكر ما يُنسب إليها في ما يتعلّق بدوافع خفض الإنتاج، لكن من الواضح أنها تتحسّب لمعركة طويلة مع الولايات المتحدة. ويعاود الإعلام السعودي، وكذلك «اليوتيوبريون»، والحسابات الإلكترونية المحسوبة على النظام، التلويح بالبدائل، كما يشير البيان السعودي - الصيني المشترك الصادر قبل أيّام في شأن التعاون بين البلدَين. كما يقيم هؤلاء مقارنة بين ما يقوم به ابن سلمان، وما ينسبونه إلى جدّه عبد العزيز آل سعود من محافظة على «استقلالية المملكة»، والحظر النفطي الذي فرضه عمّه الملك فيصل في حرب تشرين، على رغم أن الأخيرَين كانا حليفَين مطيعَين للأميركيين.
لا يخفي المسؤولون الأميركيون أن السعودية صارت تمثّل، في كثير من الأحيان، عقبةً في طريق مصالح بلادهم
يكشف التاريخ الطويل من السلوك السعودي في «أوبك»، أن المملكة لطالما استخدمت نفوذها داخل المنظمة لفرض قرارات سياسية الأهداف، بما في ذلك ضدّ أميركا والغرب. وهذه الأهداف كانت دائماً تُصمّم لخدمة النظام السعودي وليس الدولة. فقد أدرك السعوديون، منذ عام 1973، أن أسعار الوقود في الولايات المتحدة قضيّة سياسيّة حسّاسة، إذ قال بندر بن سلطان الذي كان سفيراً في واشنطن لمدّة 23 عاماً، وهو أحد الحلفاء القلائل لابن سلمان داخل الأسرة الحاكمة، في عام 2004، إن القرارات النفطية للسعودية يمكن أن تأتي برئيس للولايات المتحدة وتذهب بآخر، وهو ما يؤكد الأهمية الاستراتيجية للمملكة. ولكن في غالبية الحالات، كانت الرياض تستجيب لطلبات الإدارة الأميركية في الفترات الانتخابية. ما يحصل الآن هو العكس، حيث يمثّل قرار وليّ العهد الخفض الكبير للإنتاج، تدخُّلاً مباشراً في الانتخابات النصفية الأميركية التي ستُجرى الشهر المقبل، ضدّ رغبة الإدارة. ويبدو أنه يريد كسْر ظهر «الحزب الديموقراطي» ومساعدة «الجمهوريين»، وهو يسعى إلى تحقيق نتيجة سريعة في هذا الاتجاه من خلال رفع الأسعار بشكل جوهري، كخطوة أولى نحو إعادة ترامب، حليفه، إلى السلطة في عام 2024. وابن سلمان نفسه سبق أن استخدم النفط في مناسبَتين: الأولى في عام 2018 عندما رفَع الإنتاج بطلب من ترامب لخفض الأسعار بعدما بلغت 60 دولاراً للبرميل، ثم في عام 2020 حين قام بخفض الإنتاج، أيضاً بناءً على طلب ترامب الذي أراد حماية صناعة النفط الصخري التي لا تزدهر إلّا عند مستويات سعرية معيّنة، بعدما ضربتها أزمة «كورونا».