متابعات-
في لحظة بدا كأنها قفزت من خارج السياق، عادت المنطقة العربية لتشهد بدايات تبريد واستقرار، في مسار تقوده السعودية، وتنقاد فيه غالبية الدول العربية، حتى تلك التي تُبدي تمنّعاً في الإعلام فقط، مثل الكويت في الملفّ السوري. ولئن أظهر قرار «جامعة الدول العربية» إعادة مقعد سوريا في الجامعة، إلى حكومة دمشق، ثمّ مشاركة الرئيس السوري، بشار الأسد، في القمّة العربية في جدّة، توجّهاً عربياً حاسماً لإعادة صوغ نوع جديد من العلاقة مع سوريا، وطريقة التعامل مع أزمتها التي طالت أكثر من 10 سنوات، إلّا أن هذا التوجّه سبقه ورافقه، وتبعه أيضاً، حراك عربي ديبلوماسي مكثّف خلف الكواليس، لمحاولة محاصرة أيّ تداعيات سلبية قد تنتج منه، خصوصاً في ظلّ الموقف الغربي والأميركي الذي بدا متشدّداً ورافضاً لفكرة عودة العلاقات العربية مع سوريا. ولم يقتصر الأمر على النشاط الديبلوماسي فقط، بل أن بعض حكومات هذه الدول، مارست ضغوطاً في بلدانها، لمنع أيّ تظاهرة أو فعالية جماهيرية، تعبّر عن رفضها لعودة سوريا إلى «الجامعة العربية»، وتعكّر صفوَ الموقف العربي «الموحّد». وإذا كانت هذه الدول العربية، في غالبيتها، حريصةً بشكل استثنائي على علاقتها بالأميركيين، فهي تبذل جهوداً ديبلوماسية واسعة ومنسّقة، لإقناع هؤلاء بجدوى قرار الجامعة (رقم 8914 بشأن تطورات الوضع في سوريا) والذي اتُّخذ بالإجماع، بشكل متعمّد، ليصبح قراراً غير قابل للتراجع عنه، وهو ما يحاول العرب إيصاله إلى المسؤولين في واشنطن. في المقابل، فإن الولايات المتحدة لم تقابل القرار العربي بكثير من «العدائية»، إذ قال حينها، متحدّث باسم الخارجية الأميركية إن «واشنطن تشارك حلفاءها العرب أهدافهم إزاء سوريا، ومنها بناء الأمن والاستقرار، لكنها لا تزال تشكّك في استعداد الأسد لاتخاذ الخطوات اللازمة لحل الأزمة السورية».
قبل اتّخاذ قرار إعادة سوريا إلى الجامعة، في اجتماع على مستوى الوزراء في القاهرة الشهر الفائت، كانت السفيرة السعودية في واشنطن، ريما بنت بندر بن سلطان آل سعود، باشرت جولةً على أعضاء بارزين في مجلسَي النواب والشيوخ الأميركيّيْن، لتحضيرهم للقرار العربي المُزمع اتّخاذه. بدا للسفيرة السعودية، خلال جولتها، أن أعضاء «الكونغرس» كانوا منقسمين في مواقفهم من القرار العربي، ومن مجمل إعادة العلاقات العربية مع سوريا، كما لم يكن الانقسام بينهم تقليدياً، أي بين جمهوريين وديموقراطيين، بل بحسب رأي كلّ واحد أو مجموعة. وبحسب مصادر ديبلوماسية عربية، فإن «بعض أعضاء الكونغرس البارزين أكدوا للسفيرة السعودية، أنه وإن أبدى البيت الأبيض «ارتياحه» لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، إلا أنهم (في الكونغرس) يمتلكون الثقل الأكبر في المواقف من المتغيّرات الدولية، ومن القرارات تجاهها». وفي ختام جولتها، أبلغت السفيرة السعودية ما بدا لها للقيادة السعودية في الرياض، وبينما أكّدت أن موقف الإدارة الأميركية «واضحٌ ومتفهِّمٌ» لقرار الدول العربية، أشارت إلى أنه «من الضروري مواصلة العمل على التواصل مع أعضاء ومفاتيح في «الكونغرس»، لإقناعهم بقرار العرب، ولمنع موجة من العقوبات الأميركية على الجامعة العربية»، بحسب المصادر.
سعت الدول العربية إلى استكشاف مواقف عدد من الدول الأوروبية البارزة
مع انعقاد القمّة العربية في جدة، وحضور الرئيس الأسد، والجوّ «الاحتفالي» الذي رافق ذلك، بدا للدول العربية أن قرارها لن يكون تمريره يسيراً لدى الأميركيين. وبناء عليه، اتفقت وزارات خارجية هذه الدول، على تشكيل ما يشبه «مجموعة ضغط» (لوبي) عربية في واشنطن، لتدشين حملة لإقناع الأميركيين بجدوى التوجّه العربي، والحؤول دون ردود فعل مبالغ فيها من قبل الأميركيين. وبحضور سفراء وسفيرات عدد من الدول العربية في واشنطن، وعلى رأسهم السفيرتان السعودية والكويتية، والسفيران العُماني والأردني، انعقد اجتماع للاتفاق على «لغة ونبرة موحّدة في الحديث مع الأميركيين». وبحسب المصادر الديبلوماسية العربية، فإن المجتمعين «ناقشوا محدّدات خطّة عمل، بحيث تعمل ديبلوماسية كلّ دولة عربية على حدة، ولكن ضمن خطة واحدة، على التواصل مع أعضاء بارزين في الكونغرس لإقناعهم بالقرار العربي وجدواه». واستعرض المجتمعون «أدوات» إقناع الأميركيين، وخلصوا إلى أن استعراض المخاطر التي تشكّلها الأزمة المتفاقمة في سوريا، على الأمن القومي للدول العربية، وخصوصاً في قضايا المخدّرات والمنظّمات الإرهابية كـ«داعش»، إضافة إلى ملف اللاجئين السوريين المنتشرين في عدة دول عربية، والتأثير الكبير لذلك على اقتصاديات وأمن هذه الدول، يمكن أن يسهم في دفع الأميركيين إلى تفهّم موقف العرب، أو عدم معارضته بشدّة على الأقلّ. ويبدو ممّا رشح عن الاجتماع، بحسب المصادر، أن «كلّ المجتمعين، عبّروا عن قناعة حكومات بلادهم، بضرورة تجاوز الموقف الأميركي، وعدم الرجوع أي خطوة إلى الوراء، في موازاة بذل كل الجهود الممكنة مع الأميركيين». ويتسلّح هؤلاء بعدم وجود أي خطط أميركية بديلة عمّا في أيديهم، إضافةً إلى الفشل الذريع الذي مُنيت به السياسة التي كانت مُتّبعةً اتجاه سوريا، خلال السنوات العشر الفائتة. كما أشار بعضهم، بحسب المصادر، إلى «ضرورة استغلال كل دولة عربية علاقاتها الجيدة مع الأميركيين، لدعم الموقف العربي العام»، إضافة إلى «التذكير بالمصالح الأميركية في العالم العربي، واعتبار ذلك أوراق قوّة بيد العرب». وفي المقابل، لم ينس المجتمعون ضرورة «تطمين» الأميركيين إلى أن خطة «خطوة مقابل خطوة» المتَّبعة عربياً يمكن أن تنتزع من سوريا خطوات لطالما كانت مطلباً لدى الأميركيين، وعليه فإن منح واشنطن، العربَ، «مهلة سنة واحدة على الأقل، للمس النتائج»، سيكون «إنجازاً».
وفي سياق موازٍ، سعت الدول العربية إلى استكشاف مواقف عدد من الدول الأوروبية البارزة، من التوجّه العربي الجديد. ووجدت أن الموقف الفرنسي يبدو «متفهّماً»، بحسب ما نُقل في الأروقة الديبلوماسية عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. كما أن المملكة المتحدة على سبيل المثال، لم تُعِر اهتماماً كبيراً للتوجّه الجديد في المنطقة، وكذلك الدول الأوروبية الأخرى، التي بدَت في مجملها منغمسةً في الحرب الروسية - الأوكرانيّة، وغير معتنيةٍ بما يجري في الشرق الأوسط، باستثناء ألمانيا التي بدا موقفها أكثر تشدّداً. كما تعمل الدول العربية على تنظيم حملات «ترويج» لقرارها بخصوص سوريا، أمام الوفود الغربية والأميركية التي تزور دول المنطقة في مناسبات مختلفة. وفي هذا السياق، شرحت الخارجية المصرية، أمام وفد كبير من «الكونغرس» زار القاهرة أخيراً، الموقف العربي المستجدّ، وأوضحت أمام الوفد أن «الشعور العام العربي بات مجمعاً على وجوب البحث عن أساليب مختلفة في التعاطي مع القضية السورية»، بحسب المصادر الديبلوماسية المصرية.
يمشي القادة العرب خطوات حذرة في المسار العربي الانفتاحي على سوريا، في ضوء المحاذير الغربية والأميركية. وكمن ارتكب «جريمة»، يسعى هؤلاء بكل الوسائل إلى تبريرها وإخفات أي صوت قد يخرج عليها في أي مكان من العالم. لكن الحذر العربي المفرط لا يعني أن الحكومات العربية تضع أمامها احتمال التراجع عن خطواتها تجاه سوريا، بل على العكس، هي تقوم بكل ما هو ممكن لعدم عرقلة هذا المسار، ولإزالة أي تهديد جوهري له.