متابعات-
بدلاً من أن تؤدّي الزيارات الأميركية المتكرّرة إلى السعودية إلى تحسين العلاقات بين البلدين، يُظهر ما يتسرّب عن مضمون اللقاءات أن الأمور تزداد سوءاً. إذ يتكشّف أن النظام السعودي يذهب بعيداً في تحدّي واشنطن، بل والتلاعب بها، بما يصوّره مدركاً تماماً لنقاط ضعفها في هذه المرحلة من صراع الأقطاب في العالم، ولنقاط قوته التي أتاحت له تحقيق مكاسب كبيرة
يكاد لا يمرّ أسبوع من دون أن يزور مسؤول أميركي كبير، أو وفد، السعودية، حاملاً مقترحات إلى وليّ العهد، محمد بن سلمان، لإعادة ترتيب العلاقات بين البلدَين. لكن رغم ذلك، ورغم الندم الذي أبدته واشنطن على مقاطعة الرئيس جو بايدن للرجل وسعيها الحثيث لتجاوز هذا الموقف، ما زال التوتّر بينهما يتصاعد. لم يكن مجرّد صدفة، أن تتزامن زيارة وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى السعودية، وهي الأرفع لمسؤول أميركي منذ قمّة جدة الفاشلة بين بايدن وابن سلمان في تموز من العام الماضي، مع ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» نقلاً عن وثائق «ديسكورد» السرّية، من أن ابن سلمان هدّد بعقوبات «مؤلمة» على الولايات المتحدة، ومقاطعة إدارة بايدن، إذا ما نفّذ الأخير وعيده الذي أطلقه في الخريف الفائت، بالانتقام من قرار السعودية خفض إنتاج النفط. فالصحيفة ومالكها جيف بيزوس اللذان يَعتبران أن لهما ثأراً شخصياً لدى الحاكم الفعلي للسعودية، على خلفية مقتل جمال خاشقجي الذي كان كاتب عمود فيها، غير معجبَين بتعامل الرئيس الأميركي المتذبذب مع الرياض.
التهديد الذي أطلقه ابن سلمان كان في ذروة التوتّر في العلاقات، إذ كانت أسعار النفط تشهد ارتفاعات، ما أثار مخاوف الديموقراطيين آنذاك من أن تؤثّر على فرص فوزهم في الانتخابات النصفية. حينها، اعتبرت الإدارة أنها خُدعت من قِبل ابن سلمان، بعدما تلقّت ما اعتبرته تطمينات بعدم الخفض خلال قمّة جدة، فإذا بالخفض المدفوع سعودياً يتجاوز كلّ التوقعات، بما فيها تلك التي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويصل إلى مليوني برميل يومياً. لم ينفّذ بايدن تهديده ذاك، ولا غيره من الوعود التي كان أطلقها بشأن التعامل مع السعودية منذ حملته الانتخابية، وابتلع الإهانة تلو الأخرى، على مدى مسار رئاسته، لكن منذ ذلك الحين، أخذ الموقف الأميركي من ابن سلمان منحى تنازلياً واضحاً. وصار الرئيس يرسل كبار مسؤوليه بانتظام إلى الرجل، من دون أن يحقّق أيّ نتيجة حتى الآن. وتتذرّع أميركا بأن الواقع الجيوسياسي الجديد في العالم، يحتّم عليها بذل الجهد الممكن لكي لا تخسر حلفاء مهمّين كالسعودية في غمرة الصراع القطبي مع الصين وروسيا. وفي النتيجة، تمكّن ولي العهد من التلاعب بالإدارة الأميركية، وفي الوقت نفسه الاستفادة من الصراعات الدولية لتنفيذ سياسة تتيح له تعزيز موقعه كمتسيّد في هذه المنطقة، وكان من بين ما اقتضته هذه السياسة الاتفاق مع إيران، برعاية صينية، والتوجّه نحو الخروج من الحرب اليمنية.
لم ينفّذ بايدن تهديداته ضدّ الرياض، وابتلع الإهانة تلو الأخرى
لم تكن التقييمات التي نشرتها الصحف الأميركية لنتائج لقاء بلينكن - ابن سلمان، مبشّرة أكثر من عشرات اللقاءات السعودية - الأميركية التي سبقته. إذ أظهرت أن السعودية غير معنيّة بالإغراءات الأميركية المتمثّلة بالتصريحات العلنية عن تطوير التعاون الدفاعي، والتسريبات عن إمكانية البحث في شروط سعودية تحدّثت عنها وسائل الإعلام الأميركية ومن بينها مبيعات أسلحة متطوّرة للرياض، وإقامة برنامج نووي سلمي لها، لكن مع ربط ذلك بالتطبيع مع إسرائيل. وقد حسم وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، اتجاه بلاده حين قال لمناسبة زيارة بلينكن، إن التطبيع فوائده محدودة، وإن المملكة ما زالت تركّز على «حلّ الدولتين». والواقع أن المغزى الفعلي لهذا التصريح هو أن التطبيع سيجلب كوارث للنظام السعودي على صعيد علاقته بشعبه، المتردّية أصلاً. وكذلك، ما زالت المملكة ترفض تخييرها أميركياً، بين العلاقة مع واشنطن والعلاقة مع كلّ من الصين وروسيا. فالقرار السعودي بالتحوّط من الاعتماد الأمني التاريخي على الولايات المتحدة، ثابت ولا رجعة فيه، بل إنه صار من الأسس التي يقوم عليها مشروع النظام للمستقبل. والجدير ذكره، هنا أيضاً، أن التنازلات الأميركية لابن سلمان، تشمل وقف استخدام ملفّ «حقوق الإنسان» الذي كانت تشهره واشنطن عندما تريد ابتزاز الرياض، بحيث صارت المطالبة الأميركية تقتصر على الإفراج عن من يحملون الجنسية الأميركية في السجون السعودية، بعدما كانت تشمل كثيرين غيرهم من المعارضين.
ولكن على رغم كلّ ما تقدّم، ما زال الرهان الأساسي للأميركيين يقوم على إنقاذ العلاقة مع الرياض، وما زالوا يعتقدون بإمكانية النجاح. فحتى تهديد ابن سلمان خضع لقراءات متباينة بسبب عدم اتّضاح ظروفه. فثمّة فارق كبير بين أن يكون الرجل قد وجّه هذا التهديد في حضرة أحد المسؤولين الأميركيين الذين زاروه، وبين أن تكون الولايات المتحدة قد علمت به عن طريق التنصّت، وهو ما لا توضحه الوثيقة المسرّبة. في الحالة الثانية قد يُحال الأمر إلى واحد من انفعالات الرجل التي لا يُعوّل عليها كثيراً، ولا تقدّم صورة كاملة لما يجري في العلاقات بين الجانبين. الأهمّ من ذلك أن التفاوض الحقيقي لا يجري على وسائل الإعلام. فثمة ملفّات كثيرة بين السعودية والولايات المتحدة، بعضها يتعلّق بابن سلمان شخصياً، كالملفّ القضائي، وبالموقف الأميركي من حكمه، لم يرِد شيء في شأنها. وبلا شك، تملك الولايات المتحدة الكثير لتتفاوض عليه مع نظام لها مساهمة كبيرة في بنائه واستمراره، وتعرف كلّ تفاصيله، ولديها علاقات واسعة مع كلّ مستوياته، وتستطيع حين تُواجَه باحتمال خسارة العلاقة مع الرياض، أن تضرب وتؤذي، وصولاً حتى احتمال التصفيات الجسدية.