إبراهيم نوار- القدس العربي-
بعد أیام قلیلة من الانقلاب السیاسي في إسرائیل ببدء تمریر التعدیلات القضائیة بواسطة الكنیست الإسرائیلي قبل فترة الإجازة الصیفیة، أرسل الرئیس الأمریكي بایدن مستشار الأمن القومي جیك سولیفان إلى السعودیة، لبحث تطویر العلاقات المشتركة بین البلدین وتطبیع علاقاتھا مع إسرائیل. بایدن یعلم أن أحد أھم الشروط السعودیة لعقد صفقة مع أمریكا، ھو وضع القضیة الفلسطینیة على المسار الصحیح، في اتجاه حل الدولتین، وإقامة دولة فلسطینیة عاصمتھا القدس الشرقیة. كما أن بایدن یعلم علم الیقین أن الحكومة الإسرائیلیة الحالیة ھي أبعد ما یكون عن فكرة حل الدولتین حالیا، وأن غالبیة الرأي العام الإسرائیلي ترفض الفكرة في الأجل المنظور، بل إننا نقول إن البرنامج السیاسي لحكومة نتنیاھو- سموتریتش – بن غفیر یقوم على أساس اجتثاث جذور ھذه الفكرة؛ بإقامة واقع جدید، ینقل تحقیقھا إلى «حیز المستحیل، من حیز الممكن.»
عقبات التطبیع
وتكشف الأنشطة التي یقوم بھا المستوطنون والحكومة، خصوصا بدعم من وزارات الدفاع والمالیة والأمن القومي، حیث یشرف سموتریتش على خطة محكمة لضم الضفة الغربیة، ویتولى بن غفیر قیادة عملیة الحشد والتعبئة لتوسیع الاستیطان و»تھوید» القدس الشرقیة، التي تردد الدول العربیة المؤیدة للحق الفلسطیني أنھا یجب أن تكون عاصمة الدولة الفلسطینیة المستقلة. القدس الشرقیة أصبحت، منذ مجيء الحكومة الحالیة، ھدفا لسیاسة التھوید بواسطة المستوطنین المتطرفین، كما أصبح الطابع الإسلامي للمدینة القدیمة یواجه خطرا حقیقیا، حیث يشھد العدید البنایات في القدس الشرقیة طرد أصحابھا الفلسطینیین منھا، تحت سمع وبصر العالم كله لیسكن فیھا مستوطنون یھود.
ھذا كله یمثل تطورا جدیدا في سیاسة الاستیطان، إذا استمر، فإنه سیجعل الحدیث عن أن «القدس الشرقیة» عاصمة للدولة الفلسطینیة مزحة مثیرة للسخریة. الحكومة الإسرائیلیة الحالیة لا تضیع الوقت في إصدار البیانات والتصریحات، بل إن بن غفیر وسموتریتش، بدعم من نتنیاھو وزعماء مجالس المستوطنین، مشغولون بإقامة حقائق جدیدة على الأرض تمنع أن تصبح القدس الشرقیة عاصمة لدولة فلسطینیة. یحدث هذا في الوقت الذي جعلت فیه الدبلوماسیة الأمریكیة في الشرق الأوسط، تطبیع العلاقات بین السعودیة وإسرائیل ھدفھا الأساسي في المرحلة الحالیة. ووسط ھذا الصخب الذي یھدف لاجتثاث فكرة إقامة دولة فلسطینیة من جذورھا، تمت زیارة وزیر الخارجیة أنتوني بلینكن للسعودیة في حزيران/یونیو الماضي، ثم جاءت بعدھا زیارة جیك سولیفان الثانیة للسعودیة خلال شھرین، فماذا ترید الولایات المتحدة من السعودیة، إذا كانت الرسائل الإسرائیلیة إلى كل من البلدین تشیر بوضوح إلى استحالة تحقیق الشرط السعودي لتطبیع العلاقات مع إسرائیل؟ أم ھدف كل من بلینكن وسولیفان ھو حرث الأرض وتمھیدھا لتقارب أمریكي – سعودي، والمساعدة على وضع حواجز لتقلیل اندفاع الدبلوماسیة الصینیة في المنطقة، وإنھاء التعاون السعودي – الروسي في سوق النفط؟ أم أن ھذه المحادثات ترتبط بما ذكرته صحیفة «وول ستریت» منذ أیام، من أن السعودیة تقوم بترتیب مفاوضات لإنھاء حرب أوكرانیا، ربما تشارك فیھا دول أخرى مثل الھند والبرازیل؟
ماذا ترید أمریكا
الافتراض الأول، المتعلق بدفع عملیة تطبیع العلاقات بین السعودیة وإسرائیل، یبدو بعیدا عن المنطق، وعدیم الجدوى، ومستفزا للمشاعر السیاسیة في كل من إسرائیل والسعودیة، نظرا لاستمرار الصخب حول سیاسة الاستیطان المتطرفة، والقتل المتعمد للفلسطینیین، واقتحام المسجد الأقصى. ویبقى الافتراض الثاني ممكنا، إذا كان لدى واشنطن ما یمكن أن تقدمه لولي العھد السعودي، بإصدار تعھد أمریكي رسمي بأمن السعودیة، یلزم الولایات المتحدة بالدفاع عنھا في حال تعرضھا لعدوان خارجي، ویرتبط بحصول الریاض على أكثر الأسلحة تقدما في ترسانة الدفاع الأمریكیة، والثاني یتعلق بالمشاركة في البرنامج النووي السلمي السعودي، مع التسلیم بالشرط السعودي المتعلق بامتلاك تكنولوجیا دورة الوقود النووي الكاملة من دون قیود. إذا استجابت واشنطن لكل من المطلبین أو أحدھما، فإن علیھا أن تكون مستعدة لمواجھة الصخب الذي سیصدر عن مؤیدي إسرائیل وجماعات الضغط المرتبطة بھا. ومع أن جماعات الضغط الصھیونیة في الولایات المتحدة تدرك أن إقرار التعدیلات القضائیة في إسرائیل تھدد «العلاقات الخاصة» بین الدولتین، فإنھا في الوقت نفسه، لا تؤید أن یؤدي ذلك إلى تھدید الجانب الأمني الاستراتیجي في ھذه العلاقات الخاصة. بل إنھا على العكس من ذلك تعتقد أن كلا من إسرائیل وأمریكا أكثر احتیاجا الآن إلى تعزیز علاقاتھما الخاصة، لمواجھة التھدیدات الكثیرة لمصالحھما المشتركة في المنطقة. ویلخص دینیس روس، الذي عمل سابقا مساعدا للرئیس أوباما لشؤون الشرق الأوسط، في مقال أخیر بعنوان «رسالة خاطئة في الوقت الخاطئ» وجھة النظر ھذه، مؤكدا أن ھذا الوقت بالتحدید لا یتطلب تھدید «العلاقات الخاصة»، خصوصا في جانبھا العسكري، نظرا للتھدیدات الخارجیة المتعاظمة التي تواجھھا إسرائیل من حزب ﷲ الذي یصعّد تحركاته على الحدود الشمالیة، ومن إیران التي عادت تقترب مع حلفائھا من الحدود السوریة – الإسرائیلیة في الجولان. وقد بلغ الأمر أن یتھم روس، ضمنا، الداعین إلى قطع المساعدات العسكریة الأمریكیة عن إسرائیل، في مقالات نشروھا في الأیام الماضیة، بالعداء للسامیة، ومنھم بعض كبار المؤیدین لھا مثل نیكولاس كریستوف وجاكوب سیغل ولییل لیبوفیتز، رغم أن أحدا في الولایات المتحدة لا یشكك على الإطلاق في ولائھم لإسرائیل. مقال روس یحذر بقوة من الإنسیاق إلى دعاوى فرض عقوبات عسكریة على إسرائیل لتعدیل سلوك حكومتھا، حتى یتوافق مع أھداف السیاسة الخارجیة الأمریكیة في الشرق الأوسط، لأن ذلك قد یولد ضغوطا إضافیة على العلاقات بین الدولتین. وترفض إسرائیل بكل قوة أن تحصل السعودیة على أسلحة متطورة، یمكن في أي وقت لاحق أن تستخدم ضدھا، كما ترفض بكل قوة حصول أي دولة في المنطقة على تكنولوجیا نوویة تتیح تشغیل دورة التخصیب الكاملة لإنتاج الوقود النووي، وذلك حتى یكون احتكارھا للقوة النوویة إقلیمیا ھو قلب ومركز تفوقھا وتحقیق أمنھا من دون تھدید، كما ترفض تقدیم ضمانات أمنیة خاصة لھا. ولا یتعلق الأمر فقط بإیجاد إجابات على المطالب السعودیة تتوافق مع السیاسة الإسرائیلیة، بل إن أي صیغة للاتفاق مع السعودیین سیدقق فیھا الكونغرس تدقیقا شدیدا، ومن المحتمل إما أن یرفضھا مجلس النواب ذو الأغلبیة الجمھوریة، أو أن یضع قیودا شدیدة على تطبیقھا، ربما تصل إلى درجة منح الكونغرس سلطة تعلیق الاتفاق كلیا أو جزئیا في حال مخالفته. الأكثر من ذلك أن المحادثات الجاریة لا تتصل بالعلاقات الثنائیة بین البلدین، وإنما ترتبط بمواقف أطراف أخرى، منھا الحكومة الإسرائیلیة المتطرفة التي تدیر البلاد حالیا. وتتخذ ھذه الحكومة موقفا متشددا تجاه أي إخلال بمیزان القوى في غیر صالحھا، سواء بالحد من تفوقھا العسكري النوعي، أو بكسر احتكارھا للقوة النوویة في الشرق الأوسط، أو بإقامة دولة فلسطینیة بجوارھا. ومن الصعب تصور إمكان صیاغة حلول وسط ترضي إسرائیل في النقاط الثلاث، على الرغم من أن نتنیاھو كان قد أعلن أكثر من مرة أن تطبیع العلاقات مع السعودیة یمثل أحد أركان سیاسة حكومته الحالیة.
خیارات إسرائیل
وبینما تعتبر الولایات المتحدة أن تطبیع العلاقات یصب أساسا في مصلحة الأمن القومي الإسرائیلي، ویعزز ھدف «دمج إسرائیل عضویا في المنطقة»، وھو ما یلتقي مع الأھداف طویلة المدى للدبلوماسیة الأمریكیة، فإن إسرائیل بدأت تسعى إلى تحریر خیاراتھا السیاسیة من الضغوط الأمریكیة. وفي ھذا السیاق فإن حكومة نتنیاھو بدأت بالفعل في اتخاذ مواقف تخالف ما تدعو إلیه الولایات المتحدة، من طلب زیادة إمداد أوكرانیا بالسلاح في مواجھة الروس، وكذلك فی ما یتعلق بطلب العمل على تقیید نمو النفوذ الصیني في الشرق الأوسط. ومن الواضح أن إعلان نتنیاھو عزمه زیارة الصین قبل نھایة العام الحالي لم یلق ترحیبا في الولایات المتحدة، كما أنه یواجه أیضا انتقادات شدیدة في داخل إسرائیل، باعتبار أن مثل ھذه الزیارة في مثل ھذا التوقیت تمثل تھدیدا للعلاقات الخاصة بین الولایات المتحدة وإسرائیل. ومن الواضح أن التنافس الأمریكي – الصیني ھو المحرك الذي یقود استراتیجیة كل من السعودیة وإسرائیل في اتجاه التمسك بخیارات سیاسیة، تستھدف استثمار ھذا التنافس لاستخلاص تنازلات من الإدارة الأمریكیة تلبي أھداف السیاسة الإقلیمیة والخارجیة لكل منھما. السعودیة ترید أن تحصل على الحد الأقصى الممكن دفاعیا واقتصادیا وتكنولوجیا ودبلوماسیا. وإسرائیل توجه رسالة لأمریكا بأنھا لیست دولة تابعة، وبإمكانھا فتح مسارات مستقلة لتحقیق أمنھا القومي من دون تقدیم أي تنازلات للفلسطینیین أو للأمریكيين. أما فرضیة التعاون الأمریكي – السعودي بشأن أوكرانیا فإنھا إن صحت، فربما تعكس سعى أمریكا لتطویر علاقاتھا بالسعودیة، لتعویض الدور الذي كانت تقوم به إیران الشاه قبل ثورة الخمیني.