متابعات-
بعد صمت طويل، بدأت السعودية تُقارب علناً موضوع تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والذي تَجري مفاوضات بشأنه منذ أشهر بينها وبين الولايات المتحدة، للوصول إلى صيغة تشمل، إلى جانب التطبيع، اتّفاقات تضمن أمن النظام السعودي. وعلى رغم التسريبات الأميركية عن بحث إمكان عقد معاهدة على نمط تينك القائمتَين بين واشنطن وكلّ من طوكيو وسيول، إلّا أن معوقات كثيرة يمكن أن تمنع الوصول إليها، في حين أنه من غير الوارد أن تقبل حكومة بنيامين نتنياهو بإقامة دولة فلسطينية، ليبقى المعروض فعلياً أمام الرياض، هو تطبيع مقابل وعودٍ لا ضمانات بتنفيذها حتى إذا تمّ التوصل إليها
عندما سُئل وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلته مع محطّة «فوكس نيوز» عن الذي يحتاجه للتطبيع مع إسرائيل، قال إنه «جرى التواصل مع إدارة (جو) بايدن لتحقيق ذلك، وبالنسبة إلينا القضية الفلسطينية بالغة الأهمية. نحتاج إلى حلّ هذه المسألة. ولدينا مفاوضات جيّدة مستمرّة حتى الآن، وسوف نرى إلى أين ستصل الأمور. ونأمل أن نصل إلى مكان يخفّف معاناة الفلسطينيين، وتلعب إسرائيل فيه دوراً إيجابياً في الشرق الأوسط». كلام ابن سلمان يعكس ببساطة أن أمن النظام السعودي ما زال معروضاً أمام الأميركيين في بازار المساومات، حتى بعد التحوّلات الكبيرة التي شهدها العالم، والتي اغتنمتها الرياض للضغط على واشنطن بهدف إعادتها إلى اتفاق «الأمن مقابل النفط» الذي صار تطبيقه في السنوات الأخيرة يسير في اتّجاه واحد، هو المصلحة الأميركية، حين بدا أن الحماية الأميركية رُفعت عملياً عن النظام السعودي.
الأمور لا تسير كما يريد السعوديون في المفاوضات، إذ يمثّل رفع السقف، من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي أعلن مجدّداً رفضه «حلّ الدولتين»، مؤشّراً إلى الفشل في تحقيق تقدّم ملموس. والسعودية، وفق حسابات تابعة للنظام على منصّة «X»، طلبت من الوسيط الأميركي تعليق النقاشات كافة حول إمكانية التطبيع مع تل أبيب، لأن «التحركات الإسرائيلية تنسف أيّ تقارب مع الفلسطينيين، وبالتالي مع السعوديين». على أن التمسّك السعودي بـ«حلّ الدولتين»، ليس مسألة مبدئية، وهو ما ظهر من خلال سعي نظام ابن سلمان نفسه قبل سنوات إلى الترويج لـ«صفقة القرن» التي تخلّت عنها المملكة لاحقاً، بعد فشلها، لأسباب عديدة أهمّها الموقف الفلسطيني الموحّد في رفضها. لذا، فحين يكون المعروض على النظام مرضياً له من حيث ضمان أمنه، ستظهر حقيقة تمسكه بالحقوق الفلسطينية. لكن منذ ذلك الحين، اتّضح للنظام أن الأميركيين غير معنيّين بحمايته إذا ما أدّى انخراطه في مشاريع خطرة إلى تهديد وجوده. ولذا، يريد النظام الآن، مقابل التطبيع، حماية أميركية، وحلّاً فلسطينياً على قاعدة «الدولتين»، من دون تحديد ماهية الدولة الفلسطينية المفترضة.
ولا يعكس حصر نسف المفاوضات مرّة بعد مرّة، بالرفض الإسرائيلي للحلّ المذكور، الحقيقة تماماً. فالمشكلة الحقيقية تكمن في عدم قدرة أيّ إدارة أميركية على تسويق معاهدة عسكرية لحماية النظام السعودي، داخلياً، أمام الكونغرس والرأي العام، بسبب الكراهية الأميركية للسعودية، ولهذا النظام بالتحديد. والتسريب الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، أوّل من أمس، عن أن مساعدي بايدن يدرسون إمكانية التوصّل إلى معاهدة عسكرية مع السعودية، على نمط المعاهدتَين الموقّعتَين مع اليابان وكوريا الجنوبية، من شأنه أن يشعل المعارضة الأميركية لها. والمعاهدة مع اليابان، الموقّعة عام 1951، تسمح بتواجد القوات الأميركية على أراضيها، وتنصّ على أنه «إذا هوجم أيّ هدف لأيّ من البلدين على الأراضي اليابانية، فإن كلا البلدَين سيهبّ لمواجهة الخطر المشترك بالتوافق مع الشروط والآليات الدستورية المطبَّقة في اليابان». وتستخدم المعاهدة مع كوريا الجنوبية، الموقّعة بعد الحرب الكورية عام 1953، لغة مشابهة. لكن أهمّ تطبيقات تينك المعاهدتَين، هو أن البلدين مشمولان بحماية المظلّة النووية الأميركية، لا لحمايتهما بنفسهما، وإنما لحماية عشرات آلاف الجنود الأميركيين المنتشرين فيهما، من أجل المصالح الأميركية فقط. فكيف يمكن إقناع أحد بأن واشنطن يمكن أن تعقد معاهدة عسكرية انطلاقاً من متطلّبات سعودية لا أميركية؟ ولا سيّما مع الهدف المعلن لبايدن، والمتمثّل في إعادة توجيه المصادر العسكرية الأميركية والقدرات القتالية بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط، وتكريسها لردع الصين، وخصوصاً في منطقة آسيا - الهادئ، وكذلك في ضوء التعب الذي أصاب الأميركيين من التورّط في حروب الشرق الأوسط.
لكن، وعلى رغم الموانع الكثيرة لتوقيع معاهدة من هذا النوع مع الرياض، وأهمّها المعارضة الشديدة في الكونغرس من قِبل الحزبين، إلّا أن التطوّرات العالمية في السنوات القليلة الماضية، أعادت إلى السعودية بعضاً من أهميتها بالنسبة إلى الأميركيين، وخاصة بسبب الدور السلبي بالنسبة إلى مصالحهم، والذي يمكن أن تلعبه في حال سمحوا لها بالابتعاد عنهم، والاقتراب من الصين وروسيا. والمفاوضات بين الأميركيين والسعوديين، المستمرّة منذ أيار الماضي، تَجري على خلفية أزمة تعانيها واشنطن في صدّ عودة الأقطاب الآخرين إلى البروز في العالم، سواءَ على المستوى العالمي، كموسكو وبكين، أو على المستويات الإقليمية. وبالتأكيد، دفعت تلك التحوّلات الأميركيين إلى التفكير في استعادة التحالفات القديمة، وخاصة في وجه روسيا. هذا ما فعلته واشنطن في حالة تركيا، مقابل وعود استثمارية يدفعها في الغالب الخليجيون، وهذا أيضاً ما تسعى إلى فعله مع السعودية، ولا سيما إذا لم تتراجع روسيا في أوكرانيا، وظلّت الحرب تستنزف الموارد الأميركية والأوروبية. السؤال يدور حول الثمن الذي يمكن أن تدفعه واشنطن لتحقيق ذلك، وإلّا فإن الأميركيين لم يخفوا انزعاجهم من التقارب السعودي - الصيني الذي ساعد في التوصّل إلى الاتفاق مع إيران، ولا من التعاون السعودي - الروسي في «أوبك بلس»، والذي دفع أسعار النفط إلى الارتفاع إلى مستويات مؤذية للاقتصاد العالمي المُهيمَن عليه أميركياً.
ومع ذلك، فإن التوصّل إلى اتفاق أمني أو عسكري سعودي - أميركي، على صعوبته، ليس مستحيلاً. فعندما قضت المصالح الأميركية بالدفاع عن المملكة، حصل هذا، حتى من دون وجود معاهدة، حين غزا صدام حسين الكويت عام 1990، وعرّض للخطر إمدادات النفط العالمية. ويمكن واشنطن أن تخفّف من احتمالات التورط في حرب شرق أوسطية حتى إذا وقّعت معاهدة مع السعودية، في ظروف معينة، مِن مِثل تقدّم الاتفاق السعودي - الإيراني، بما ينفي الحاجة إلى مواجهة إيرانية - سعودية تجبر الجيش الأميركي على التدخّل، وأيضاً إذا جرى التوصّل إلى حلّ للحرب في اليمن. وفي المقابل، حتى إذا كانت ثمّة معاهدة، فإن الأميركيين ليس معروفاً عنهم الالتزام بالمعاهدات إذا لم تكن مصالحهم تقضي بالوفاء بها. وهنا بالذات تكمن المخاوف السعودية، ولا سيما إذا كان الحديث يجري عن معاهدة عسكرية يمكن أن تورّط الأميركيين في حرب إقليمية قد تفجّرها مصلحة شخص أو حتى نظام. وعندما يتحدّث الأميركيون عن طلب السعودية توقيع معاهدة عسكرية مع الولايات المتحدة، فإن المعروف أن النظام يريد منها الالتزام بحمايته من كلّ أنواع التهديدات، الخارجية والداخلية، لأن أيّ معاهدة كهذه ستُعتبر تبنّياً أميركياً لنظام ابن سلمان، كما هو. والاعتبار المتقدّم يمكن أن يكون خلف ما نقلته «نيويورك تايمز» نفسها، عن مسؤولين أميركيين، من أنه لا توجد حالياً مناقشات جدّية حول نشر قوات أميركية كبيرة في السعودية، بموجب أيّ اتفاق دفاعي جديد، وهو ما ينمّ عن عدم جدّية أميركية، علماً أنه بحسب رسالة بعثت بها وزارة الدفاع إلى الكونغرس في حزيران الماضي، يوجد حالياً 2700 جندي أميركي في المملكة.