(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
كدفقٍ هائلٍ من حمم بركان انفجر للتو؛ جاء حوار وليّ العهد السعودي الأمير "محمّد بن سلمان" ناريًا كاسحًا، كأنّه كان ينتظر الفرصة أو يتهيأ للوقت المناسب، حيث حفل بكثير من الرسائل إلى أطراف عالميّة وإقليميّة، منها ما كان غزلًا صريحًا، أو خطوة ودّ لأطراف أخرى، ومناورات لأطراف ثالثة... إذ حمل حواره مع "بريت باير"، على قناة "فوكس نيوز" الأميركيّة، كثير جدًا ممّا يمكن استخلاصه عن أفكار ومبادئ، وربما المنظومة القيميّة للرجل الأقوى في المملكة العربيّة السعوديّة، وملكها القادم.
بعد آخر حوار تليفزيوني له، في العام 2019، أطلّ من جديد على شاشة "فوكس نيوز"، وهي الشّاشة الإخباريّة الأكثر مشاهدة في الولايات المتّحدة طوال العقدين الماضيين، إذ تصل إلى قرابة 80 مليون منزل في أميركا، وتقع على رأس قائمة اهتمامات 50% من متابعي الأخبار التليفزيونيّة. والمحاور "باير" هو الأفضل، اليوم، في مجاله، وطوال ما يزيد على عقدين قدّم كثيرًا من الحوارات مع الرؤساء والزعماء وقادة الرأي والمؤثرين في أميركا وخارجها، وبرنامجه "التقرير الخاص" من أفضل خمسة برامج متابعة في الولايات المتّحدة.
وليّ العهد اختار أن يروّج لنفسه في الداخل الأميركي، وعبر صورة ورديّة غارقة في التمنيات ومعبأة بالأوهام لمملكة تنمو وتعيش في خيالاته. فقال نصًا لمحاوره والبسمة وإمارات الثقة تغطي وجهه إنّ: "السعوديّة أعظم قصة نجاح في القرن الـ21، ووتيرة تقدمنا ستستمر بسرعة أعلى، ولن تتوقف أو تهدأ ليوم واحد". وهو خطاب مخيف إذا خرج من عقل سياسي يدير دولة في الشرق الأوسط، بكلّ أزماتها الخارجيّة ومشكلاتها الداخليّة وظروف مجتمعاتها التي نعرفها ونراها مجسدة وحية، في كلّ يوم، وتصفعنا بلا رحمة في كلّ لحظة.
أما بالنسبة إلى القضية الأساسية في الخطاب، وهي ما أمطرتنا به وكالات الأنباء والصحف الأميركيّة طوال الشهرين الماضيين، عن "اتفاقية سلام" بين السعوديّة وكيان الاحتلال. وهي وردت نصًا على لسان وليّ العهد السعودي للمرة الأولى منذ النكبة في العام 1948، أي اعتراف مجاني بالعدوّ من دون أي إفادة لقضية الأمتين الإسلاميّة والعربيّة. فعلى سبيل المثال؛ سبق أن نشرت جريدة "وول ستريت" أنّ الاعتراف السعودي بالكيان قد جرى الاتفاق عليه بين واشنطن والرياض، مقابل: رفع الفيتو الأميركي عن صعود وليّ العهد "محمّد بن سلمان" إلى العرش، إنشاء برنامج نووي سعودي، انطلاق عملية مفاوضات فلسطينية- صهيونية تغطي الخطوة السعوديّة الصادمة.
ما يعني، وبشكل مباشر، أنّ الحقيقة السعوديّة تُصنع في البيت الأبيض لا في قصر اليمامة، وأنّ المستقبل السعودي في لحظة التكوين والنشأة الأولى هو ترجمة لإرادة أميركيّة، بما هو مقبول وحدود ما هو مسموح. باختصار، نعيش في مسرح عرائس لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، والأيدي التي تحرّك وتتحكّم هناك في واشنطن، تكتب السيناريو وتوزع الأدوار، فوسائل الإعلام الأميركيّة في تقاريرها السابقة عن الخطوات السعوديّة كانت تعلم يقينًا، ولم تكن تقرأ الطالع أو تلعب مع الحظ.
حملت كلمات وليّ العهد السّعودي ووعوده ثلاثة انتصارات مجانيّة للكيان، كما فعل بالضبط "أنور السّادات" حين طار إلى القدس طالبًا السّلام المزعوم، فقد اعترف مجانًا وقبل أي شيء بالعدوّ. وهو قد فتح الباب أمام غيره من الدول العربيّة والإسلامية للاعتراف والتفريط في كلّ حقّ لنا، بحقيقة كون السّعوديّة أحد المراكز العصبيّة والحسّاسة للأمّة. وهو ثالثًا قد ارتكب خطيئة سياسيّة بأنّه أهان نفسه وبلاده واستجدى الطرف المقابل، والدّرس الوحيد في هذا السياق هو أنّ من يستجدي يسهل على عدوّه امتطائه وكسره، ومجانًا.
على هذا المنوال؛ سار حديث وليّ العهد عن "قنبلة نوويّة سعوديّة"، وقال إنّه إذا ما امتلكت إيران قنبلة نوويّة فإنّ السّعوديّة ستقتنيها أيضًا.. وهذه فاجعة أخرى للعقليّة التي تدير بلدًا بحجم المملكة العربيّة السعوديّة، وهي لا تعرف الفرق بين مفردتي النّمو والتنمية، وبين سعي أمّة لامتلاك برنامج نووي يشكّل عمادًا لاستقلالها، ويترجم أسمى معاني إرادتها الوطنيّة الجامعة لجماهير شعبها، كما فعلت الصين والهند وباكستان، وحتى كما فعلت بريطانيا وفرنسا، ولم يفرّق بين سلعة على رفّ سوبر ماركت، وبين حلم وطني عظيم يمثل التخطيط والتفوق والقدرة على المواجهة، تستطيع أن تقول كلمة "لا" واضحة، وتتحمّل عواقبها.
ما ترجمه لنا هذا الحوار هو لب مأساة السّياسة العربيّة، في أنّ الأنظمة العربيّة في مواجهتها للأميركي قد تخلّت أولًا عن قضاياها، وهي بعكس الصهيونية حقائق واقعة وقائمة لا أساطير زائفة من أوراق صفراء بالية. وهي ثانيًا قد قبلت أن تبيع كرامتها وما تفرضه هذه الكرامة من عزة الكبرياء، وهي أخيرًا في سعيها لنيل رضا أميركي قد باعت سلاحها وملابسها، وسارت عاريةً، تحاول أن تقدّم نفسها للجمهور هناك، علّه يرضى.