محمد علوش- البيت الخليجي-
تعدّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية من الأحداث السياسية المهمة التي تحظى باهتمام كبير من دول العالم، بما في ذلك دول الخليج التي تربطها بالولايات المتحدة علاقات وثيقة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، كما أن لواشنطن مصالح سياسية وعسكرية مهمّة في المنطقة.
وفي ظلّ التطورات الإقليمية والدولية التي تشهدها المنطقة، بما في ذلك توسيع الصين وروسيا نفوذيهما في دول الخليج، وتأثير الحرب الأوكرانية على امدادات الطاقة عالميًا، ومستقبل التطبيع الإسرائيلي مع دول الخليج، وتنامي الدور الإيراني في المنطقة، وتزايد عوامل اشتعال حرب بين إسرائيل وقوى محور المقاومة فإن الموقف من الانتخابات الأمريكية يكتسب أهمية إضافية، ولا سيما أنه يأتي في وقت تمر فيه العلاقات الأمريكية مع دول الخليج بحالة تأرجح بين التأزم والتعافي.
ومع رغبة كل طرف في إعادة الشراكة الإستراتيجية إلى مستوياتها التاريخية، تصبح الإشكالية المطروحة ما الذي يريد كل طرف من الآخر لاستعادة المتانة التي كانت عليها العلاقات؟
سياسية خارجية ثابتة
مع اقتراب مواعيد الانتخابات الرئاسية العام المقبل، تجري مناقشة عميقة بين الأحزاب السياسية الأمريكية حول السياسة الداخلية والخارجية المطلوب اعتمادها في المستقبل. وكأي اختلاف نتيجة التباين في الرؤى والمشاريع، تتمايز المواقف بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة: الديمقراطيين والجمهوريين.
يرى غالبية الخبراء أن الحزبين يتفقان على قضايا، مثل التنافس الاستراتيجي مع الصين وحماية التصنيع المحلي والقدرة على الوصول إلى التكنولوجيات الاستراتيجية. في حين يختلفان على مواضيع ذات أهمية حاسمة مثل التغير المناخي والحرب في أوكرانيا وعلاقة الولايات المتحدة بحلفائها.
تمثل الصين حجر الأساس في اهتمامات السياسة الخارجية حيث يتفق الحزبان أن الصين تمثل التحدي الأعظم للولايات المتحدة، لكنهما يختلفان في كيفية التعامل معها. يميل الحزب الجمهوري إلى نهج أكثر أحادية بينما يميل الحزب الديمقراطي إلى نهج أكثر تعاونية، مع تركيز الطرفين على أهمية المنافسة التكنولوجية مع الصين.
وفيما يتعلق بوضع أمريكا العالمي ووجودها العسكري في الخارج، ينقسم الحزبان بين أولئك الذين يؤمنون بالمشاركة الدولية المحدودة للولايات المتحدة، ويجادل آخرون لصالح إعطاء الأولوية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأنصار استمرار القيادة العالمية الأمريكية.
يرفض الطرفان على نحو متزايد فكرة التدخل العسكري في الخارج، وخاصة لأغراض بناء الدولة. تصف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي صدرت في أكتوبر 2022، جهود بناء الدولة السابقة في المنطقة بأنها تصرف الانتباه عن أولويات التفوق على الصين وتقييد روسيا. وهناك شعور قوي لدى الحزبين بأن عصر التدخل وبناء الدولة في الشرق الأوسط قد انتهى وأن المنطقة لم تعد أولوية أميركية مطلقة.
من المتوقع، أياً كان الفائز في الانتخابات المقبلة أن تميل الولايات المتحدة إلى تقليل مشاركتها في الصراعات المستمرة في العالم العربي.
في سوريا، يتوقع أن تحافظ الولايات المتحدة على موقف يدعو إلى حلّ سياسي للحرب الأهلية، لكنها لن تنخرط بشكل أكبر في أي مناقشات جديدة. وفي اليمن حيث لم تنجح جهودها في إيجاد حل سلمي للصراع، من غير المرجح أن تقدم فرصة جديدة لواشنطن للتأثير على المناقشات. أما في ليبيا، فقد ألقت إدارة بايدن دعمها للجهود الأوروبية والأمم المتحدة لإيجاد حل للجمود السياسي، لكنها ترغب في الحفاظ على العلاقات مع طرفي المعادلة السياسية.
أما بخصوص ملف إيران النووي، فمن الصعب التكهن بكيفية تعامل واشنطن مع إيران بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، فإذا فاز الديمقراطيون في الانتخابات الرئاسية 2024، فمن المرجح أن يواصلوا جهودهم لإحياء الاتفاق النووي. ويرجع ذلك إلى أن الديمقراطيين أكثر ميلاً من الجمهوريين إلى التوصل إلى اتفاق مع إيران، ويعتقدون أن الاتفاق النووي هو أفضل وسيلة لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية في حين لا تبدو مواقف الجهوريين ثابتة حتى الآن.
لا يهم من يفوز
يؤكد قادة دول الخليج في مناسبات عديدة على أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة، والتزامهم بالتعاون معها في مختلف المجالات أياُ كانت هوية شاغل البيت الأبيض أو الحزب الذي يحكم.
وخلال قمة جدة للتعاون والتنمية يوليو 2022 التي عقدت في جدة السعودية بحضور الرئيس الأمريكي وعدد من القادة العرب، قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إننا “نواجه تحديات كبرى، ونحتاج إلى تنسيق وتعاون أكبر بيننا وبين الولايات المتحدة”، آملاً ” أن تؤسس القمة لعهد جديد من الشراكة الإستراتيجية بين دول المنطقة والولايات المتحدة”. بدوره أكد ولي عهد الكويت الشيخ مشعل الأحمد الصباح دعم دول مجلس التعاون إكمال طريق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وفي 23 أغسطس 2023، دعا جاسم محمد البديوي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى تعزيز التشاور والتنسيق والتعاون بين دول الخليج والولايات المتحدة في المجالات كافة.
بعيداً عن الدبلوماسية المعهودة في العلاقات الدولية، تبدو تصريحات الدكتور أنور قرقاش مستشار رئيس دولة الإمارات الأمير محمد بن زايد لصحيفة نيويورك تايمز في أغسطس 2023 صائبة إلى حد بعيد في تشخيص الموقف الخليجي العام. “الأمر لا يتعلق ببايدن ولا بترامب.. الأمر لا يتعلق بمن سيأتي لاحقاً”، يقول قرقاش الذي يطرح تساؤلا هو الأهم في المعادلة: “هل يمكن للنظام الأمريكي أن يوفر لك ما تريده؟”.
إذن، محور الاهتمام ينصب على ما يريده قادة الخليج من الولايات المتحدة مقابل استدامة الشراكة الإستراتيجية بدلاً من الحديث عما تريده الولايات المتحدة منهم كحليف تاريخي مُجرّب.
في السنوات الأخيرة، اتخذت الولايات المتحدة عددا من الإجراءات التي شعرت دول الخليج أنها تضعف التزام واشنطن بالمنطقة، مثل سياسة واشنطن تجاه إيران وموقفها من الانتفاضات العربية وتلكؤها في حماية المناطق الحيوية في السعودية والامارات من المسيرات الإيرانية وصواريخ الحوثيين، ثم انسحابها من أفغانستان وتركيزها المتزايد على مواجهة الصين.
انعكاسًا لتلك السياسات المقلقة خليجياً، شعرت الولايات المتحدة بالقلق من تراجع نفوذها في منطقة الخليج، عقب توجه السعودية والامارات نحو تنويع شركائهما الاستراتيجيين وعلى رأسهم الصين والتعاون مع روسيا ضمن منظمة أوبك بلس. ولذلك كثفت زياراتها واتصالاتها بكل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والأمير محمد بن زايد لبحث ملفات إيران والحرب في اليمن والعلاقة مع الصين وروسيا.
ومع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في 2024، يحتاج الرئيس بايدن لعقد صفقات اقتصادية مع دول الخليج وضمان تدفق النفط الخليجي إلى الأسواق العالمية، يمكن ترجمتها تصويتا لصالحه في صناديق الاقتراع.
ولا تقتصر أجندة بايدن الانتخابية على الجانب الاقتصادي، بل يطمح لإنجاز تاريخي يخلده في قائمة القادة الأمريكيين العظماء، حيث تعمل إدارته دون كلل لإنجاز اتفاق سعودي إسرائيلي يفضي الى تطبيع بين البلدين ضمن تفاهمات ابراهام. في السياق، تكشف صحيفة “الفايننشال تايمز” في 5 سبتمبر أيلول إن إدارة بايدن مستعدة لتقديم ضمانات أمنية للسعودية فضلا عن مساعدتها في برنامج نووي مدني مقابل إقناعها بالتطبيع مع إسرائيل.
إن تمكن بايدن من تحقيق هذا الهدف، فما من شك أنه سيكون الأوفر حظا في السباق الرئاسي القادم حيث يعتقد أنصار الاتفاق أن له العديد من المزايا بما في ذلك تعزيز السلام والرخاء والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ودعم الولايات المتحدة في صراعها على النفوذ العالمي أمام الصين، بالإضافة إلى كونه إنجازًا دبلوماسيا يتفاخر به بايدن في الوقت المناسب قبل الانتخابات الرئاسية عام 2024.
على الرغم من ذلك، يشكك خبراء في إمكانية نجاح بايدن في خطته الطموحة التي يراد لها أن تكون أكثر وقعا من تلك التي أحدثتها الصين حين تمكنت من تحقيق مصالحة إيرانية سعودية كانت بعيدة المنال. مبعث الشكوك تلك أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تعير اهتماما كبيرا لملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فهي لم تتمكن من فعل شيء مع بنيامين نتنياهو الذي عاد الى السلطة كرئيس وزراء إسرائيل في ديسمبر 2022 في حكومة هي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، حيث تركز أجندة الحكومة الإسرائيلية الحالية على تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والقضاء التام على إمكانية قيام دولة فلسطينية على أرض الواقع. كما تؤذن باندلاع حرب واسعة مع قوى المقاومة وهو ما حدث فعلاً وتسبب في تجميد المفاوضات السعودية الإسرائيلية، وهو ما يمثل انتكاسة لإدارة بايدن ويهدد استقرار وأمن دول الخليج.
وأياً كانت السيناريوهات، فإن مواقف الدول الخليجية من الإدارة الأمريكية المقبلة ستتخذ استنادا للسياسات التي قد تتبناها الإدارة الجديدة تجاه القضايا التي تهم دول الخليج، وفي مقدمتها الأمن وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.