(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
"الحجُّ عرَفة".. واحدةٌ من أقصر الجمل وأعذبها من بين أحاديث النبيّ الأكرم، ربّما تكون هذه الأيام بالذات فرصةً لأضعها تحت مجهر فصيح، متسلّحًا ببهاء القدسية في العشر الأول من ذي الحجّة، متخلّيًا عن شواغل أخرى أقلّ شأنًا من تدبّر وإعادة مناقشة الأمور والمواقف والتطورات، على صعيد الأمّة والإنسان.
أوّل ما تستدعي الجملة الكريمة للضمير اليقظ الحاضر هي مفردة "معرفة"، وهي متاحة قريبة طالما هناك عقل بشري واثق من تحرّره ومهتدٍ بإيمانه. ما أحوجنا إلى معرفة جديدة بالماضي والحاضر تجعلنا قادرين على المشاركة في صناعة المستقبل، أو ربّما رؤيته فقط. في هذه اللحظة ليس هناك همًّا حاضرًا في الغرب سوى الانتخابات الأميركية، بشكل أدقّ احتمال عودة "ترمب" إلى البيت الأبيض. في هذه الأيام تراجعت الحرب الروسية الأوكرانية والحرب المشتعلة في الشرق الأوسط "طوفان الأقصى"، والصدام الوشيك مع التنين الصيني إلى المراتب الأدنى للاهتمام، عقب ظهور "شبح" عودة دونالد ترمب إلى الحكم والسيطرة على أكبر قوّة على وجه الأرض، وبدفاتر حساباته التي يعلنها بجموح في كل مقابلة، وهي فرضية تزداد ثقلًا مع الانتخابات، وتوقّعات واستطلاعات الرّأي التي تقول بوضوح إنّ كل شيء ممكن، حتى هذا الكابوس.
مناقشة أمر انتخابات الرئاسة الأميركيّة في الواقع أمرٌ مرير؛ لأنّ إمبراطورية الشرّ العاتية هذه أُتيح لها أن تمارس نفوذًا وانتشارًا وتأثيرًا أكثر من أيّ إمبراطورية أخرى في التاريخ الإنساني المعروف، ومكّنت لها طفرة التكنولوجيا المتفجّرة ترسيخ سيادتها وتسلّطها منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، أميركا هي حاكم الكوكب الأوحد، ووجودها ونفاذها يمتدّ من أجهزة اتصالاتنا، إلى علب الكولا الفارغة في كل شارع، إلى صندوق سحرها ودجلها "التلفاز"، وهو بات يمثّل في حياتنا الحاكم والمدبر والمخطط لها، كي تكون حياة على الطريقة الأميركية وبالقيم الأميركية، حتى وإن تغيّرت اللغة وتعدّدت اللهجات، هذه الانتخابات ستؤثر في صور الحياة اليومية البسيطة لكل إنسان، كذلك ستؤثر على مستقبل المملكة وكل مواطن فيها.
الرّعب من وصول "ترمب" إلى المكتب البيضاوي يضرب أوّلًا في أوروبا. القارّة العجوز ستكون أوّل وأكبر الضحايا المطلوبين من الرئيس الجديد، الذي يرغب في كسر دائرة الاعتمادية المتبادلة بين ضفّتي الأطلنطي. "ترمب" تاجر لا يفكّر بالعواقب البعيدة المحتملة؛ إنما هو يريد ببساطة مكاسب آنية، تساعده في تحقيق وعدَيه لناخبيه، فرص عمل أكثر واستثمارات أكبر وأسرع تضمن النمو لعقود، وهو في هذا كله سيقيم محرقة بمصالح أوروبا كي يحقّق فوائض يتيح بها حقن وتنشيط الاقتصاد الأميركي المترهّل. التبادل التجاري بين أوروبا وأميركا يبلغ يوميًا ما يفوق 3 مليارات يورو، وأغلب الاستثمارات الجديدة في القارة العجوز تأتي من أميركا، والدفاع عن أوروبا أمام غيرها –هتلر في الماضي أو بوتين في الحاضر- كان التزامًا أميركيًا، وهذا كله معرض لعاصفة تُلقيه في الفراغ وظلام الاحتمالات.
من أجل فهم انعكاس هذا الوضع على المملكة بشكل أبسط، فإنّ هناك مثلاً إفريقيًّا يقول: "إذا تصارعت الفيلةُ فلا تسأل عن العشب"، أي صراع اقتصادي أو تجاري كبير بين عملاقين بحجم أوروبا وأميركا سيضرب مباشرة التجارة العالمية، وسيصيب الأسواق خارجها بصدمات هائلة تفوق ما عايشناه في الأزمة المالية العالمية 2008، وستفوق بعشرات المرّات نتائج الحرب الروسية الأوكرانية التي ما نزال نتلظّى بها حتى اليوم. وإنّ المنطقة العربية بهشاشة الأوضاع فيها وتركيبة الحكم والمجتمعات التي لم تكمل أطوار نموّها ولم تبلغ رشدها بعد، مرشحة كي تكون واحدة من أولى ساحات تفريغ الشحنة الهائلة لهذا الصدام، بكل ما تحمله هذه الفرضية من ترويع وألم.
الجبهة الثانية المرشّحة للتصاعد أو الصدام هي جبهة الشرق الأقصى والصين، "بايدن" كان يتبع سياسة احتواء الصين، أما ترمب فكان ولا يزال يرفع شعار كبح الصين، ومع رؤية ترمب المعادية لمبادئ التجارة العالمية، فإنّه من الممكن أن نشهد واحدةً من أسوأ كوارث العالم الاقتصادية، إذا ما وصل للحكم ومرّر تشريعاته الداعية لحمائية الصّناعات الأميركية، ومن ثم ردود الفعل الأخرى التي سيثيرها القرار، والصدام بين واشنطن وبكين حتى إن لم يكن عسكريًا فإن وقعه الرهيب سيكون أقسى وأكثر فداحة من الأسلحة النووية، خصوصًا إذا كانت المناقشة تتعلّق باقتصاد يستورد كل شيء، من الطعام إلى السّيارة إلى الدواء.
بالنسبة للشرق الأوسط غالبًا لن يتغير شيء، الرجلان لا يتفقان على أيّ شيءٍ سوى ضمان أمن كيان العدو والتزام دائم بإبقاء الدول العربية تابعة خاضعة مستذلة، والأخيرة بالذات تحتاج "معرفة" يقينيّة بأنّ أمّةً ليس لديها مشاريع ولا خطط ولا نوايا لبناء قطاعات زراعية وصناعية تضمن لها حاجتها الذاتية حريٌّ بها أن تُترك كالمعلّقة، في الفراغ تمامًا.