في 2025/12/25
(أحمد شوقي \ راصد الخليج)
تعددت التحليلات لوثيقة الأمن القومي الأمريكية التي أصدرتها إدارة الرئيس ترامب، في أوائل ديسمبر/كانون الأول، الراهن بشأن ما قالت إنه تغييرات جذرية في سياسة الولايات المتحدة. إلا أن التدقيق في الوثيقة الأصلية،ـ بمعزل عن التحليلات، يقود إلى قناعة بأن ما جاء بالوثيقة هو استمرار للنهج والتحالفات الأمريكية نفسها، ولكن بوجه آخر، يجمع بين الصراحة الفجة بعيدًا عن تزيين الخطاب المعتاد أمريكيًا، وبين إخفاء النوايا العدوانية والقيادة من وراء الستار.
مع أن منطقة "الشرق الاوسط" احتلت مكانة متراجعة ظاهريًا، من حيث الشكل، وعدد فقرات ذكره بالوثيقة، لكن في المضمون، أعلنت أميركا أن هذه المنطقة لم تعد بؤرة للصراع؛ وإنما مكانا للشراكة والاستثمار. لكن المتابع للوثيقة، بمجملها، يرصد أن "الشرق الأوسط"، وتحديدًا منطقة الخليج، بمثابة رمانة الميزان في الاستراتيجية الأمريكية.
في هذا الصدد؛ سنحاول رصد أهم ما يتعلق بمنطقة الخليج، بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ صدر في الوثيقة العديد من الإشارات التي يجب الانتباه لها؛ لأنها تحمل متغيرات عن السياسة التقليدية الأمريكية. وهنا، يمكننا الإيجاز باستعراض بعض نصوص فقرات الوثيقة ومحاولة استخلاص المستجدات منها، وذلك عبر العناوين الآتية :
1. أميركا لن تحارب في معارك غيرها
جاء في الوثيقة ما نصه: "أخطأت نخبنا خطًا جسيمًا في تقدير استعداد الولايات المتحدة لتحمل مسؤوليات عالمية إلى ما لا نهاية. هي مسؤوليات لم يكن الشعب الأمريكي يراها مرتبطة بمصلحته الوطنية. .. وسمحت لحلفائها وشركائها بتحميل الشعب الأمريكي تكلفة دفاعهم، وأحيانًا جرّونا إلى صراعات وخلافات تمس مصالحهم في الصميم؛ في حين تكون هامشية أو غير مرتبطة بمصالحنا. وربطت السياسة الأمريكية بشبكة من المؤسسات الدولية، بعضها مدفوع بمعاداة أمريكية صريحة، والعديد منها تحركه نزعة عابرة للحدود تسعى صراحةً إلى إذابة سيادة الدول الفردية.
هذا النص فيه رسالة إلى الحلفاء كلهم، بمن فيهم الحلفاء في كمطقة الخليج، أن أميركا لن تتورط في صراعات تخص مصالح الخليج الخالصة، وإنما قد تسهم في ما يحقق المصلحة الأمريكية فقط، والتي تتعلق قطعا بأمن "إسرائيل" وحماية سلاسل التوريد الأمريكية، ولن تنجر إلى دعم صراعات الخليج مع أي قوى إقليمية، إلا في حدود المصلحة الأمريكية.
2. طمأنة بعدم الضغط بورقة الديمقراطية وحقوق الانسان
في نص آخر تقول الوثيقة: "نحن نسعى إلى إقامة علاقات جيدة وتجارية وسلمية مع دول العالم، من دون فرض تغييرات ديمقراطية أو اجتماعية تختلف، بشكل كبير، عن تقاليدها وتاريخها".
قد يطمئن حكام الخليج والمنطقة، عمومًا لهذا النص، في تصوّر أن الولايات المتحدة قد رفعت عن كاهلهم أعباء ضغوطها وابتزازها؛ في حين نرى هي تثير القلق. ذلك؛ لأن عدم التدخل سيكون مشروطًا بالانصياع للمصلحة الأمريكية، حيث ستكون شروط العلاقة الجيدة هي تحقيق المصلحة الأمريكية وخدمة أجندتها في الصراع الدولي، وهذا بمثابة تضييق لهامش التنوع الخليجي والموازنة في العلاقات الدولية.
3. تقاسم الأعباء ونقل المسؤوليات:
هذا العنوان؛ جاء نصًا في الوثيقة، عندما قالت في شرحه: "لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة وحدها تحمل عبء النظام العالمي كأطلس. من بين حلفائنا وشركائنا العديد من الدول الغنية والمتقدمة التي يجب أن تتحمل المسؤولية الأساسية عن مناطقها، وأن تسهم بدرجة أكبر بكثير في دفاعنا الجماعي". هنا كلام واضح؛ يرفع كلفة الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع أميركا، والتي ربما تقصد الناتو بالدرجة الأولى، ولكن الحديث جاء عامًا عن الحلفاء، إذ تنطبق هذه القاعدة بدورها على منطقة الخليج.
كما أن الوثيقة أشارت إلى اعتماد الدول على نفسها في المواجهة، في حين ينحصر الدور الأمريكي في المساعدة والقيادة غير المباشرة. وقد أوضحت ذلك بالنص في قولها: "ستكون الولايات المتحدة على استعداد للمساعدة، بما في ذلك في معاملة تجارية تفضيلية وتبادل التكنولوجيا ومشتريات دفاعية، للدول التي تقبل طوعًا بتحمل المزيد من المسؤولية الأمنية في محيطها، وتوحيد ضوابط التصدير مع ضوابطنا".
لعل جملة "توحيد ضوابط التصدير" هذه تقطع الطريق على تنويع مصاد التسليح، وهو ما حدث من اعتراضات أمريكية على شراء تركيا للدفاعات الروسية.
4. الهيمنة في مجال الطاقة
في فقرات أخرى من الوثيقة تقول ما نصه: "إن استعادة الهيمنة الأمريكية، في مجال الطاقة (النفط والغاز والفحم والطاقة النووية)، وإعادة توطين المكونات الرئيسة اللازمة لها تمثل أولوية استراتيجية مطلقة". هذا رسالة إلى مديري قطاعات الطاقة والاقتصاديين، في الخليج، لدراسة آثار هذا السعي للهيمنة على مستقبل الطاقة والاقتصاد الخليجي.
5. الخليج سوق أمريكي للتكنولوجيا
ذكرت الوثيقة فقرة خاصة عن الخليج وزيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة له، وعدّته مثلاً مشجعًا ودعائيًا لبقية دول العالم لشراء التكنولوجيا الأمريكية ودعمها، وأن هذا الشراء عزز الشراكة. وهنا؛ ستكون طبيعة الشراكة مع الخليج والعلاقات الجيدة مشروطة بكونه سوقًا أمريكيًا.
6. انتهاء عصر الاعتماد على الطاقة في الخليج
ذكرت فقرة أخرى من الوثيقة صراحة: "منذ ما لا يقل عن نصف قرن، منحت السياسة الخارجية الأمريكية الأولوية للشرق الأوسط على حساب سائر المناطق. كانت أسباب ذلك واضحة: إذ خلال عقود طويلة كان الشرق الأوسط أكبر مورِّد للطاقة في العالم والساحة الرئيسة للتنافس بين القوى العظمى ومسرحًا لصراعات كانت تهدد بالامتداد إلى بقية العالم وحتى إلى الأراضي الأمريكية. أما، اليوم، تلاشت على الأقل ديناميكيتان من هذه المعادلة. إذ تنوّعت إمدادات الطاقة، بشكل كبير، وعادت الولايات المتحدة لتصبح مُصدِّرًا صافيًا للطاقة. كما أن تنافس القوتين العظميين أفسح المجال لصراع نفوذ بين القوى الكبرى، تحتفظ فيه الولايات المتحدة بالموقع الأكثر تفضيلًا، تعزّز هذا الموقع بفضل إحياء الرئيس ترامب الناجح لتحالفاتنا في الخليج، ومع شركاء عرب آخرين، ومع إسرائيل".
اضافت الوثيقة أنه، ومع قيام إدارة ترامب بإلغاء أو تخفيف السياسات التقييدية للطاقة وازدياد الإنتاج الأمريكي من الطاقة، ستتلاشى الأسباب التاريخية التي جعلت الولايات المتحدة تركّز على الشرق الأوسط. بخلاف ذلك، ستتحول المنطقة بصورة متزايدة إلى مصدر للاستثمارات الدولية ووجهة لها، وفي قطاعات أوسع بكثير من النفط والغاز، بما في ذلك الطاقة النووية والذكاء الصناعي وتقنيات الدفاع.
7. توظيف الخليج منطلقًا لمناطق أخرى
في فقرة أخرى، قالت الوثيقة: "يمكننا أيضًا العمل، مع شركائنا في الشرق الأوسط، لتعزيز مصالح اقتصادية أخرى، سواء لتأمين سلاسل الإمداد أم لتعزيز فرص تطوير أسواق صديقة ومفتوحة في مناطق أخرى من العالم، مثل أفريقيا".
8. ادعاء تدجين الأنظمة العربية
ادعت الوثيقة أن الرئيس ترامب دجّن الأنظمة العربية، وجعلها شريكة في التطبيع مع العدو الصهيوني، وذاهبة جميعها إلى "الاتفاقات الإبراهيمية" استنادًا إلى مؤتمر شرم الشيخ. وهو ادعاء خطير يمكن تفسيره بتوقيع صك استسلام جماعي، حين قالت الوثيقة: "لدينا أيضًا مصلحة واضحة في توسيع "اتفاقيات إبراهام" لتشمل دولًا أخرى في المنطقة ودولًا أخرى من العالم الإسلامي".
اختتمت الوثيقة كلامها عن الشرق الأوسط بفقرة لافتة تقول فيها: "لم يعد الشرق الأوسط مصدر الإزعاج المستمر والكوارث الوشيكة التي كان يشكّلها سابقًا. لقد بات يُنظر إليه مكانًا للشراكة والصداقة والاستثمار. هي نزعة ينبغي الترحيب بها وتشجيعها. في الواقع، قدرة الرئيس ترامب على توحيد العالم العربي، في شرم الشيخ، سعيًا للسلام والتطبيع ستُمكّن الولايات المتحدة أخيرًا من إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية".