ترجمة: علاء البشبيشي- شؤون خليجية-
قبل خمس سنوات، كان عدد أفراد الجيش الأمريكي في الخليج يربو على 230 ألفًا، لكن هذا العدد تراجع اليوم إلى أقل من 50 ألفًا؛ ما أثار قلق العديد من المراقبين حيال مستقبل منطقة الخليج بسبب الخروج السريع لهذا العدد الكبير من الأمريكيين.
وكما قال المحلل توماس دونلي: الأفقُ الإقليميّ ملبدٌ بغيومٍ قاتمة، يلوح في ظلماتها عنفٌ، يليه عنفٌ متقطع، ثم تجدُّدٌ لأعمالِ العنف. وما وراء مشكلة انعدام الأمن على المدى القصير ثمة مجموعة من الكوابيس على المدى الطويل، تتضمن: عدم استقرار سياسي، وصدمات نفطية، وانتشار نووي.
هذه المخاوف يشترك فيها صناع القرار والمسؤولون العسكريون في واشنطن والخليج. كما يشيع الاعتقاد بأن الانسحاب الأمريكي المتهور هو المسئول عن خلق الفراغ الأمني والانهيار السياسي.
لكن لحسن الحظ، فإن الوضع الآن بالنسبة للولايات المتحدة يشبه ما كانت عليه الأمور في الخمسينيات والسبعينيات. حيث تعاني القوى الإقلمية الكبرى من قصور حاد في القوة العسكرية التقليدية، وهذا يعني أن أيًا منها لن يكون قادرًا على أن يمثل تهديدًا خطيرًا للتوازن في المستقبل المنظور:
- عانى الجيش الإيراني كثيرًا نتيجة عقودٍ من الحرب والعقوبات.
- وينصب تركيز الأجهزة الأمنية العراقية الناشئة حصرًا تقريبًا على المشكلات الداخلية.
- والسعودية، أغنى دولة في المنطقة، تبدو معتمدة على شبكة كبيرة من الدفاعات والوكلاء بدلا من السعي لامتلاك أي قدرات حقيقية.
وفي حين توجد أسباب للقلق بشأن الاستقرار الداخلي، لا سيما في ظل المعركة القائمة ضد تنظيم الدولة، هناك فرصة ضئيلة جدا لنشوب حرب بين هذه الدول. علاوة على ذلك، فإن تهديدات الشحن في الخليج ليست هائلة وإن كانت حقيقية.
كل هذا يشير إلى استنتاج بسيط ومتفائل: تستطيع الولايات المتحدة حماية جوهر اهتمامها المتمثل في التدفق الحر للنفط دون الحاجة إلى الالتزام بوجود بحري واسع النطاق أو دائم، أو تواجدٍ بري في الخليج.
كيف يبدو الخليج اليوم؟ هل يشبه بدايات الخمسينيات؟ أم فترة السبعينيات الخطيرة؟
الإجابة لها انعكاسات كبيرة على مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة:
- فإذا كانت الظروف الحالية تشبه بداية الخمسينيات، فبإمكان الولايات المتحدة تقليل تواجدها بأمان، مع توفير قدر من الاستقرار السياسي، وضمان التدفق الحر للنفط إلى السوق.
- أما إذا كانت الظروف تشبه فترة السبعينيات الخطيرة، فإن واشنطن تواجه خيارا أكثر صعوبة؛ لأن لعب دور الهيمنة الخارجية سيتطلب التزاما مفتوحًا بقوة عسكرية كبيرة، إلا إذا قررت الولايات المتحدة تقليص أهدافها الإقليمية.
ورغم أن القياس ليس دقيقًا تماما، فإن الوضع اليوم أقرب بكثير إلى فترة الخمسينيات الأكثر هدوءًا. حيث تغيب القوى الإقليمية التي تمتلك القوات العسكرية اللازمة لبسط سيطرتها على الأرض، ما يعني أنه لا أحد بإمكانه السيطرة على الكثير من النفط لدرجة التلاعب بالأسواق الدولية.
علاوة على ذلك، في نهاية المطاف قد يؤدي تنويع العرض، بما في ذلك التوسع السريع في تقنيات الحفر الجديدة خارج المنطقة، إلى تقليل النفوذ السياسي، والعوائد طويلة الأجل لمصدري النفط الخليجيين بشكل عام.
لكن بالطبع لا يزال هناك بعض التهديدات التي تواجه الاستقرار السياسي وأمن النفط. ذلك أن انتفاضات الربيع العربي باغتت قادة دول الخليج، ودفعت بعضهم إلى اتخاذ رد فعل سريع لنزع فتيل أي احتجاجات مماثلة في المنطقة.
والواقع، أن التهديد الإقليمي الرئيسي قد يتمثل في الاضطرابات الداخلية، رغم أهمية عدم المبالغة في هذا الخطر. بيدَ أن الصراع في الدول الرئيسية المنتجة للنفط قد يهدد تدفق النفط بأسعار معقولة. وقد ذاق العالم طعم هذه المشكلة خلال الحروب السابقة في العراق وليبيا، حيث تعطل الإنتاج، لكن موردي النفط الآخرين، خاصة السعودية، كانوا قادرين على تعويض تلك الخسائر.
وحتى المكاسب الأخيرة التي حققها تنظيم الدولة لم تمثل تهديدا خطيرا لإنتاج النفط أو الشحن. صحيح أن هجمات التنظيم الأخيرة ضد مصافي بيجي في العراق أقلقت بعض المحللين، لكن هذا المِرفق يعمل حصريًا في التكرير المحلي وليس جزءًا من البنية التحتية للتصدير.
علاوة على ذلك، حقق تنظيم الدولة انتصارات في الأراضي السنية الودودة نسبيا، لكنه انسحب مرة أخرى عندما واجه مقاومة منظمة. هذا يشير إلى أنه سيواجه أوقاتا عصيبة للغاية حين يهدد معاقل الأكراد والشيعة، التي تجثم على الغالبية العظمى من احتياطات العراق النفطية المؤكدة.
أما الكابوس الحقيقي فسيكون نشوب حرب أهلية في المملكة العربية السعودية، التي تلعب دورا خاصا في السوق الدولية بسبب قدرتها على زيادة الإنتاج استجابة للأزمات. وما يثير القلق بشكل خاص أن العديد من مواطني المملكة غير السعداء، والأقلية الشيعية، يعيشون في المنطقة الشرقية حيث يوجد جزء كبير من شبكة إنتاج النفط.
وإذا أشعل الصراع الطائفي في العراق وسوريا حربًا ساخنة على مستوى المنطقة، بين وكلاء والسعودية، يمكن للمرء تصوُّر أن تسعى طهران لزعزعة الاستقرار في المملكة من خلال دعم الانتفاضات الشيعية هناك.
كما أعلن تنظيم الدولة عن رغبته في شن هجمات في المملكة العربية السعودية. ومن الممكن أن تعوق هذه التطورات تدفق النفط السعودي، رغم أن هذا الخطر بالتأكيد ليس مفاجأة للنظام السعودي، الذي يوجه بالفعل الكثير من جهوده الدفاعية الداخلية لتأمين النفط.
وبغض النظر عن ذلك، لا يمثل الصراع المحلي في المملكة العربية السعودية مشكلة؛ لأن القوات الأمريكية على الأرض تستطيع أن تفعل الكثير لحل ذلك. لكن في الواقع، من المرجح أن يؤدي الوجود الأمريكي المكثف في المنطقة إلى زيادة هذا النوع من عدم الاستقرار وليس تقليله.
الخبر السار أن الاستثمار المتواضع في القوات الامريكية ينبغي أن يكون كافيا لوقف التهديدات العسكرية الهامة الأخرى التي تواجه أمن النفط في الخليج.
على سبيل المثال، يخشى بعض المراقبين أن تؤدي الضربات الايرانية ضد البنية التحتية النفطية الحيوية في المنطقة، مثل بقيق أو موانئ رأس تنورة ورأس الجعيمة، إلى عواقب وخيمة على إنتاج النفط العالمي.
ويشعر آخرون بالقلق حيال المحاولات الإيرانية لإغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو 20% من تدفقات النفط العالمية كل يوم. حيث تهدد إيران بشكل دوري باتخاذ هذه الخطوة، ووجهت مشترياتها البحرية لاكتساب القدرات ذات الصلة بهذه العمليات، كما تقوم بتدريبات منتظمة على هذه القدرات. ومع ذلك، يمكن لوضعية القوة الذكية والاقتصادية، أن تسمح للولايات المتحدة بردع وإحباط الجهود الإيرانية لأجل غير مسمى.
قوة ميسورة التكلفة
لأن البيئة الأمنية الإقليمية لا تزال مواتية نسبيا لأمن النفط، يمكن لقوة أمريكية صغيرة تكرار روح النهج البريطاني الذي أثبت فعالية كبيرة خلال الخمسينيات والستينيات.
ويمكن للانسحاب العسكري الحذر أن يترك مجموعة من القدرات التي من شأنها أن تسمح لواشنطن بمراقبة الأحداث في الخليج وتحديد المؤشرات التي قد تكون مقدمة لهجمات ضد المنشآت النفطية أو الشحن.
ويمكن للتحذيرات الاستخباراتية أن تقدح زناد اتخاذ القرار بزيادة القوات الخليج بسرعة، وفق النموذج البريطاني القديم. وهو ما يقلل من العواقب السياسية والدبلوماسية للوجود الأمريكي الدائم.
وهكذا عندما يتعلق الأمر بقوة الولايات المتحدة العسكرية في الخليج، فإن الأقل يصبح في الغالب أفضل.
خلاصة القول، أنه برغم ما واجهته هذه المنطقة، التي كثيرا ما تبدو غير مستقرة وعرضة للصراع، فإن الولايات المتحدة تتمتع في الواقع بوضعٍ يمكنها من الاستفادة من الظروف المواتية في الخليج، على الأقل فيما يتعلق بمسألة النفط.
لسنواتٍ عديدة، كان قلق المسئولين يكمن في أنه إذا كانت قوة واحدة على الأرض بإمكانها بسط سيطرتها على الخليج الغني بالنفط، فسيكون لها نفوذ استثنائي على الاقتصاد الدولي، بما يهدد الازدهار الأمريكي في نهاية المطاف.
لكن هذا السيناريو الكابوسي لم يعد مصدرا للقلق. ذلك أن دول الخليج الكبرى لم يعد بإمكانها، أو أصبحت قدرتها متواضعة على، بسط سلطتها، في حين تركز على مشكلاتها الداخلية اضطراريًا.
صحيح أن احتمالية الصراع الداخلي وعدم الاستقرار لا تزال قائمة، لكن الوجود العسكري الأمريكي الكبير ليس الأداة المناسبة لمنع أو حل هذا الطراز من الأخطار. ففي النهاية، وقعت أسوأ فترة من العنف الطائفي خلال العقد الماضي بينما كان لدى الولايات المتحدة مئات الآلاف من الجنود على الأرض.
وبينما لن تختفي التهديدات التقليدية لإنتاج النفط والشحن في منطقة الخليج، يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل مع هذه المخاطر من خلال تواجد أصغر حجما بكثير. ويمكن للاقتداء بالنموذج البريطاني أن يوفر فوائد الهيمنة دون دفع تكلفة باهظة.
ورغم أن صناع السياسة الأمريكيين ونظرائهم في الخليج اعتادوا على البصمة الأمريكية الثقيلة والواضحة على مدى سنوات، فإن استمرار هذا الوضع لم يعد ضروريا. بل في الواقع، هو وضع شاذ عندما يُنظَر إليه في السياق التاريخي.
إن التواجد العسكري المثالي الذي يفيد المصدرين الخليجيين، هو ما يحافظ على تدفق النفط، في حين يبقى غير واضح نسبيًا. مثل هذا النوع من القوة يوفر الطمأنينه دون تشجيع المخاطر الأخلاقية، ويحقق الاستقرار دون التورط أو إحداث تهيج موضعي.
الآن، حان الوقت للبدء في نقل هذه الحقائق إلى الحلفاء الإقليميين، والعمل على إقناعهم بأن العودة إلى التواجد الأمريكي الأصغر والأذكى في المنطقة هي الطريقة الأكثر استدامة سياسيا وماليا للحفاظ على التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة، حتى بموازاة التحول الاستراتيجي الأمريكي، على مستوى الموارد والاهتمام، إلى المحيط الهادي.