فورين بوليسي- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-
لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل أو أن تختار البقاء بعيدا عن التنافس المختمر بين إيران والمملكة العربية السعودية. إنه ليس نمطا بحتا من العداء الديني، كما أنها ليست حربا أهلية لأناس آخرين. إنها عش الدبابير الذي قامت واشنطن بغمس إصبعها فيه من خلال سعيها لعقد الصفقة النووية مع طهران.
تبقى حيثيات الاتفاق بأنه محاولة لوقف انتشار الأسلحة النووية، ومساعدة إيران في رحلة طويلة الأمد نحو الاعتدال. ولكن الخطة الشاملة للعمل المشترك لن تكون مقتصرة على البرنامج النووي الإيراني مهما ادعت الإدارة ذلك. هذا التحول الإقليمي الناجم عن الاتفاق لا يفسر فقط تلك السياسة الأكثر حزما للمملكة العربية السعودية، ولكنه يفسر أيضا قرارها بإعدام رجل الدين الشيعي «نمر النمر» في 2 يناير/كانون الثاني.
كان بإمكان المملكة أن تختار وقتا آخر لـ«إعدام النمر». كان يمكنها أن تقوم بتأجيل تنفيذ الحكم إلى أجل غير مسمى.
كان يمكن للمملكة أن تختار وقتا آخر لتنفيذ إعدام «النمر». كان يمكن أن يتم تأجيل إعدامه إلى أجل غير مسمى. لم يكن هناك سبب محدد لضمه ضمن عملية إعدام جماعي لـ47 شخصا يوم 2 يناير/كانون الثاني، وهي اكبر عملية إعدام جماعي نفذتها المملكة منذ قامت بإعدام 63 مسلحا بعد أن قاموا باقتحام الحرم عام 1979. فقد «نمر النمر» كل فرصه (كان الحكم نهائيا)، ولكن لم يكن هناك موعد محدد لتنفيذه. وقد أعدم مع متشددين على صلة بتنظيم القاعدة كانوا ينتظرون تنفيذ أحكام الإعدام منذ سنوات.
عندما تم الحكم على «نمر النمر» في أكتوبر/تشرين الأول فقد حذر الإيرانيون من مغبة إعدامه. لفترة من الوقت، كان هناك توقع أن يتم العفو عنه في عهد الملك «عبد الله» أو على الأقل أن يتم تعطيل تنفيذ الحكم. ولكن عندما جاء الملك «سلمان» إلى السلطة في يناير/ كانون الثاني عام 2015، وبعد تثبيت ابنه البالغ من العمر 30 عاما، «محمد بن سلمان»، وزيرا للدفاع، فقد قيل إنه كان مسؤولا عن زيادة ذلك المزاج المتشدد في المملكة.
الشعور بالخيانة
عرف السعوديون أن المضي قدما في عقوبة الإعدام من شأنه أن يستفز الإيرانيين ويقلق الأمريكيين. فلماذا اختاروا إذن القيام بذلك؟ كان الوقت قد حان لإرسال رسالة واضحة لإدارة الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» أن الرياض لم تعد تشعر أنها ملزمة للذهاب جنبا إلى جنب مع الجهود الأميركية في التعامل بحذر مع إيران.
شعر السعوديون بالخيانة بعمق بعد القناة الخلفية التي فتحتها إدارة الرئيس «باراك أوباما» مع إيران في عام 2012 دون علمهم، وأعربوا بوضوح عن قلقهم إزاء الاتفاق النووي. وقد حذر وزير الخارجية السعودي الراحل «سعود الفيصل» من أن طهران ينبغي عليها ألا تحصل على صفقة لا تستحقها. في حين قال مسؤول المخابرات السابق «تركي الفيصل» أن المملكة يمكن أن تبدأ برنامج تخصيب اليورانيوم الخاص بها إذا تمت شرعنة البرنامج النووي الإيراني.
على الرغم من أن الرياض وحلفاءها قد قبلوا الاتفاق علنا في نهاية المطاف، فإنها أوضحت أنها ستراقب كيفية تعامل الولايات المتحدة مع السلوك العدواني لإيران في المنطقة. وقد أخبرني مسؤول خليجي قبل توقيع الاتفاق النووي أنهم قلقون جدا حول الحرب الإيرانية غير المتماثلة في المنطقة. وأكد أنهم لا يمانعون في أن يمنح الإيرانيون برنامجا نوويا طالما أن الولايات المتحدة سوف تتصرف بقوة لوقف التدخل الإيراني في العراق والبحرين وسوريا، ولبنان.
عملت الإدارة بجد لإقناع حلفائها في الخليج أن الاتفاق النووي لا يهدف للتقارب مع إيران. كبادرة حسن نية مقدمة للأمريكيين، فقد قبل السعوديون على مضض بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الإيرانيين في فيينا في أكتوبر/تشرين الأول كجزء من محادثات السلام السورية. تعهدت واشنطن بتقديم المزيد من التعاون العسكري ولكن هذا لم يعوض عن ما تتصوره الرياض بمثابة موقف ناعم للولايات المتحدة مع إيران. لملء ما يراه السعوديون بأنه من فراغ في السلطة ناجم من مغادرة إدارة «أوباما» للمنطقة، فقد ذهبوا إلى الحرب في اليمن ضد المتمردين الحوثيين، الذين يتهمونهم بتلقي الدعم الإيراني.
على الرغم من أن الحرب قد أثبتت أنها كارثية ولا يبدو في الأفق نهاية واضحة لها، فقد رفضت الرياض تليين مواقفها. وقد أعلنت مؤخرا عن تحالف عسكري لمكافحة الإرهاب من الدول الإسلامية مستثنية إيران. وظفت المملكة أيضا المستشارين الغربيين للمساعدة في تجديد وتحديث قواتها المسلحة وتطوير التحالف السني.
في الأسابيع الأخيرة، أثارت سلسلة من الأحداث المزيد من الانزعاج لدى دول الخليج، بما في ذلك رد فعل واشنطن الصامت إزاء اختبار الصواريخ البالستية الإيرانية. أصيب الخليجيون بالفزع عندما أحجم «أوباما» في فرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها الصاروخي. في ديسمبر/كانون الأول، قتل «زهران علوش»، زعيم أحد الجماعات المتمردة السورية القوية في غارة جوية ألقي باللوم فيها على روسيا. لم يكن «علوش» صديقا للغرب، ولكن مقتله كان ضربة لجهود السلام السورية. كانت جماعته قد انضمت قبل ذلك بقليل إلى مؤتمر عقد في الرياض في ديسمبر/ كانون الأول عندما حاولت المملكة تنظيم صفوف المعارضة قبل المحادثات المنتظرة مع الحكومة السورية في وقت لاحق هذا الشهر.
من وجهة نظر الرياض، فقد كان رد فعل واشنطن الصامت على مقتل «علوش» أسوأ من الضربة نفسها. كان علامة على أن الولايات المتحدة لا تزال غير مستعدة لترجيح كفة الميزان لصالح المعارضة السورية والمعسكر الإقليمي السني.
يشعر السعوديون أن طهران وموسكو تقوضان المصالح السعودية عند كل منعطف. وأن حليف الرياض طويل الأمد، واشنطن، لا تفعل شيئا حيال ذلك. ظاهريا، لتجنب تعريض الاتفاق النووي الثمين للخطر.
من وجهة نظر المملكة، فإن هذا النمط الذي تتبعه إدارة «أوباما» يسبب لها هزات عنيفة. ما يراه «أوباما» على أنه محاولة لتحقيق توازن صحي في علاقة واشنطن مع حلفائها الخليجيين، فإن السعوديين يرونه على أنه خيانة وفك للارتباط الأمريكي تجاه المنطقة. وقد قال نائب ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» في حواره مع مجلة «إيكونوميست» مؤخرا إن الولايات المتحدة ينبغي عليها أن تدرك أنها القوة الأولى في العالم وأن تتصرف وفق هذا الأساس.
المسؤولون الأمريكيون لا يفهمون حالة انعدام الأمن التي يشعر بها السعوديون في مواجهة إيران: إنها البلد الأكثر ثراء كما أنها تمتلك أسلحة أكثر حداثة كما أن السنة يشكلون الأغلبية العظمى ضمن صفوف المسلمين حول العالم. ومع ذلك، فإن السعودية، في جوارها المباشر، تبدو محاطة ببلدان ذات أغلبية شيعية في إيران والعراق والبحرين.
الشعور بالتهديد
سواء أكان ذلك مبررا أم لا، فإن السعوديين يشعرون بالتهديد حيال سلوك إيران، في حين تقلل واشنطن من شأن تلك المخاوف. من المرجح أن تزيد المملكة العربية السعودية من تصلبها على كل الجبهات في المنطقة من لبنان إلى اليمن إلى سوريا، وسوف يولد ذلك المزيد من التشدد في مواقف طهران قبيل الانتخابات التشريعية الإيرانية الرئيسية في فبراير/ شباط. لا شيء من هذا مفيد في بناء بيئة مستقرة يمكن من خلالها تنفيذ الاتفاق النووي. ارتفاع حدة التوتر بين إيران والمملكة العربية السعودية يزيد من خطر تفريغ الاتفاق من فوائده الإقليمية.
قد لا يختلف البلدان عن بعضهما البعض كثيرا على مستوى التاريخ والثقافة والسياسة. بل إنه، في السنوات التي تلت الثورة الإسلامية عام 1979، فإن التنافس المحموم والديناميات السامة بين البلدين قد جعلت منهما وجهين لعملة واحدة.
عندما جاء «آية الله الخميني» قائد الثورة الإسلامية إلى السلطة في عام 1979، فقد حاول وضع نفسه كزعيم لجميع المسلمين في جميع أنحاء الدول، بغض النظر عن طائفتهم. وبذلك، فإنه قد تحدى شرعية العائلة المالكة السنية في المملكة العربية السعودية، وشكك في قدرتها على أن تكون وصيا على اثنين من المواقع الإسلامية المقدسة وهما مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أطلق السعوديون أولى الرصاصات الطائفية في هذا الصراع. لتقويض رسالة «الخميني»، فقد بدؤوا في تأطير الثورة على أنها شيعية بحتة. ثم انتقلت إيران إلى تسليح الطائفية من خلال خلق جماعة حزب الله الشيعية، وهي السياسة التي تواصلت إلى اليوم مع صعود الميليشيات الشيعية في العراق. على مدى العقود الأربعة الماضية، فقد قام كلا البلدين بتغذية الهويات الطائفية في المنطقة، ورسما خطوط المعركة حول الهوية الدينية التي ساعدت التي ساعدت على تمزيق الشرق الأوسط.
لماذا صارت واشنطن متورطة؟
بعد إعدام «نمر النمر»، أصدر حزب الله بيانا خبيثا ألقى فيه باللوم على الولايات المتحدة عن وفاة رجل الدين الشيعي، قائلا إن دعم واشنطن للمملكة العربية السعودية يمكن المملكة من الإفلات بجرائمها ضد شعبها وضد شعوب المنطقة.
وتعتقد أن المملكة العربية السعودية أن إيران هي من يسمح لها حقيقة بالإفلات من عواقب جرائمها الشائنة. وفق للعقلية السعودية، فإن نهج الرئيس الأميركي بعدم التدخل يسهم في تمكين إيران، وأن هواجس واشنطن بشأن الاتفاق النووي قد أقنعت طهران أنه لا يوجد ثمن يجب عليها أن تدفعه مقابل سلوكها التدميري في المنطقة.
يمكن أن يميل «أوباما» إلى التقليل من شأن هذا التنافس أو أن يصرف النظر عنه على أساس كونه أحد فصول الشقاق المستمر منذ قرون بين السنة والشيعة، ولكن الولايات المتحدة قد تورطت في الأمر فعليا مع توقيعها للاتفاق النووي. إذا كانت الحرب ضد العراق ما بين عامي 02003-2011، وإزالة نظام السني القوي «صدام حسين» قد أطلقت طموحات إيران بحثا عن النفوذ والسلطة في العراق، فإن الاتفاق النووي، بغض النظر عن مزاياه، أطلق العنان لسياسة استعراض العضلات في المملكة العربية السعودية.
بعد عقود من تشويه صورة إيران، فإن الهواية الجديدة الأكثر تفضيلا للإعلام الغربي هي تقريع المملكة العربية السعودية. هناك الكثير ليكتب عنه حول أوجه القصور في المملكة العربية السعودية، ولكن من المهم أن نسعى إلى فهم السياق الإقليمي الذي تطورت المواقف والسياسات السعودية خلاله، وفهم كيف يسهم الصراع مع إيران في فع السعودية إلى الأمام. ما دامت إيران الثيوقراطية تسعى خلف طموحاتها الإقليمية، فسوف تستمر المملكة العربية السعودية في رفع الراية السنية في محاولة لحشد السنة من حولها من مصر إلى باكستان. وطالما لا تزال المملكة العربية السعودية تحكم بنظام ملكي تقع في القلب منه عقيدة سنية، فإن المتشددين في إيران سوف يستمرون بسياسة الدسائس، وادعاء الوصاية على المجتمعات الشيعية في المنطقة.
النقاش الذي لا نهاية له حول كون أي البلدين أسوأ لن يساعد على استقرار المنطقة. والحقيقة هي أن «أوباما» بدأ يفقد الرياض كحليف له في الوقت الذي لم ينجح فيه في تكوين أصدقاء في طهران. وهو في حاجة ماسة إلى إيجاد وسيلة لتحقيق التوازن بين تعامله مع كل من العالم السني وإيران، فضلا عن إيجاد آلية للمساعدة في إدارة التنافس السعودية وإيران. وإذا لم يفعل ذلك، فإنه سوف يخاطر بتقويض إنجازه الأغلى حتى الآن، وهو الاتفاق النووي مع إيران.