لم يكن الإعلان عن تشكيل مجلس التنسيق السعودي الإماراتي مؤخرا سوى أحد خطوات ما يبدو إنها سياسة جديدة تنتهجها المملكة العربية السعودية في مأسسة علاقاتها مع حلفائها. وقد جاء المجلس الإماراتي كخطوة رابعة بعد الإعلان تأسيس مجالس مباشرة مع كل من مصر وتركيا والأردن منذ نهاية العام الماضي.
كانت البداية من القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حين أعلن العاهل السعودي الملك «سلمان بن عبد العزيز» والرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» عن إنشاء مجلس للتنسيق والتعاون التنسيق يتولى الإشراف التي تنفيذ بنود إعلان القاهرة والذي يشمل تطوير التعاون العسكري والعمل على إنشاء القوة العربية المشتركة وتعزيز التعاون والاستثمارات في مجالات الطاقة والربط الكهربائي والنقل وتحقيق التعاون الاقتصادي بين البلدين وتكثيف الاستثمارات المتبادلة.
وفي منتصف إبريل/نيسان الماضي وقع وزير الخارجية «مولود جاويش أوغلو» ونظيره السعودي «عادل الجبير»، بحضور رئيس الجمهورية التركية «رجب طيب أردوغان»، والملك «سلمان بن عبد العزيز»، وثيقة لإنشاء مجلس التعاون الاستراتيجي السعودي التركي الذي كان يهدف وفقا للمعلن إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي، وتوطيد أواصر الصداقة، وتقوية الروابط بين الشعبين التركي والسعودي. وكان المجلس قد تم الاتفاق على تأسيسه في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وفي يوم 27 إبريل/نيسان الماضي اتفقت السعودية مع الأردن على إنشاء مجلس التنسيق السعودي الأردني، نهاية إلى مجلس التنسيق السعودي الإماراتي الذي تم الإعلان عنه مؤخرا.
تغطية التحركات الإقليمية
وتأتي هذه الخطوات في إطار سعي المملكة العربية السعودية في تأمين تحركاتها الإقليمية من خلال إعادة «تأطير» علاقاتها مع حلفائها الإقليميين ضمن روابط أكثر رسمية ومؤسسية. في القاهرة أثمرت زيارة العاهل السعودي للبلاد في مطلع إبريل/نيسان عن توقيع 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين البلدين. أما الحصاد الأبرز لهذه الزيارة فكان التوقيع النهائي على الاتفاقية المثيرة للجدل لتقسيم الحدود البحرية بين البلدين والتي تم بموجبها نقل السيادة على جزيرتين استراتيجيتين في البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية. ودخول المملكة بحكم الواقع كطرف في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. ومع غياب وجود علاقات رسمية بين السعودية و(إسرائيل) فمن المرجح أن التنسيق سوف يتم عبر الوساطة المصرية.
تسعى السعودية أيضا للحفاظ على دعم مصر لتوجهاتها الإقليمية في مواجهة إيران المتهورة. ورغم الثبات الاستراتيجي في الموقف السعودي تجاه دعم النظام العسكري في مصر إلا أن أوساطا مراقبة سعودية لا تكف عن الشكوى من كون النظام في مصر لا يراعي استحقاقات هذه الشراكة ويتصرف في أحيان كثيرة بطريقة مضادة للمصلح السعودية. ربما يضع التنسيق المؤسسي بضع الحدود لمثل هذه الخلافات. فمن ناحية فإنه سوف يضمن استمرار تدفق الدعم السعودي إلى شرايين الاقتصاد المصري المنهار. وعلى الجانب الآخر فإنه سيتيح للسعودية قدرا من المراقبة على مصارف أموالها كما سيتيح قناة مؤسسية للتنسيق في القضايا ذات الأولوية بما في ذلك التعاون الأمني والعسكري الذي يتصدر اهتمامات السعودية في علاقتها بالجانب المصري.
على الصعيد التركي شهدت الأشهر الماضية تقاربا غير مسبوق بين الرياض وأنقرة تخطى حاجز التعاون الاقتصادي التقليدي إلى التنسيق الأمني والعسكري وبالأخص فيما يتعلق بالملف السوري (حيث تواجه الدولتان عقبات كبيرة). لا تزال المملكة تخشى من أن تجبر التطورات الإقليمية الأتراك أن يصوبوا وجوههم من جديد نحو طهران مع التعقيدات الأمنية الكبيرة التي تواجه تركيا في سوريا وإمكانية التوصل لتفهمات مع إيران حول الأكراد في ظل التعنت الأمريكي. وقد زادت وتيرة هذه المخاوف مع زيارة رئيس الوزراء التركي، الذي غادر منصبه مؤخرا، «أحمد داوود أوغلو» إلى طهران في مارس/أذار الماضي والتي قطعت أشهر من الجمود بين البلدين. فضلا عن أن العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران تجعل ائما من تجنب القطيعة خيارا محببا لدى الطرفين.
أما عن ثمار مجلس التنسيق السعودي الأردني فإنها لم تنتظر طويلا حتى تظهر إلى العلن. في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق أعلنت عمان عن قيامها بسحب سفيرها في إيران احتجاجا على تدخلها في الشؤون العربية وعدم احترامها لسيادة الدول. وقد كانت الخطوة الأردنية مفاجئة بشكل كبير لكونها لم تقع في خضم حادث سياسي أو أمني كبير. ويبدو أن السعودية، التي تعد أكبر المانحين للاقتصاد الأردني المتعثر، قد ضغطت على الأردن؛ كي تتخذ خطوة ملموسة في النزاع السعودي الإيراني، خاصة وأن عمان تجنبت منذ البداية التدخل في الأزمة بينهما، حيث حاولت أن تقف على مسافة واحدة من الطرفين، نظرا لعلاقاتها القوية مع إيران، وهو ما ظهر جليًّا في اكتفاء عمان بإدانة الاعتداء على السفارة السعودية وقنصليتها دون قطع العلاقات أو سحب السفير.
على الصعيد الإماراتي، وعلى الرغم من أن هناك حالة من الوفاق تبدو مهيمنة على العلاقات السعودية الإماراتية في الوقت الذي يقود فيها البلدان الحرب ومفاوضات التسوية في اليمن، إلا أن التفاهمات الدقيقة بين البلدين لا تخلو من تفاصيل شديدة الارتباك تتسرب إلى التغطيات الإعلامية بين الحين والآخر.
وقد ذهبت تأويلات بعض المحللين تفسير إقالة «خالد بحاح» نائب الرئيس اليمني ورئيس الوزراء السابق، والذي يمثل من وجهة نظرهم الحليف الأقرب للإمارات في البلاد، بأنها انعكاس لهذه الخلافات، مستندين بذلك إلى وجود خلافات حول محاصصة النفوذ المستقبلي في اليمن. بعد ذلك بأسابيع قليلة كان البلدان يقودان عملية عسكرية ضد معاقل تنظيم القاعدة في المكلا. هذا النمط المتذبذب في طريقة العمل السعودية الإماراتية يوحي بوجود خلافات كبيرة حول التفاصيل تعكس في جوهرها خلافات استراتيجية. ربما يفسر هذا الأمر رغبة السعودية في إضفاء قدر من الخصوصية على علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة العضو في مجلس التعاون الخليجي.
فراغ القيادة
تعكس التحركات السعودية سعيها إلى ملء فراغ القيادة في المنطقة خاصة مع الانسحاب السياسي الأمريكي وتراجع نفوذ العواصم العربية التقليدية: القاهرة ودمشق وبغداد. ويبدو أن المملكة تدرك بوضوح أن أي قوة لن يمكنها بمفردها أن تشغل هذا الفراغ وأن تضطلع بمواجهة إيران في ظل الغياب الأمريكي. ولذا فإنها تسعى لإحاطة نفسها بأكبر قدر ممكن من التحالفات الثنانية لتغطية تحركاتها. إلا أن هذه التحالفات الثنائية ربما تعكس من زاوية أخرى تواضع تأثير المملكة العربية السعودية في تقريب وجهات النظر بين حلفائها في ظل توسع الخلافات بينهم. وبشكل أخص بين مصر وتركيا وبين الإمارات العربية المتحدة وتركيا مما يفقد هذه التحالفات العديد من نقاط قوتها الرئيسية. وتبقى السعودية هي المشترك بين هذه التحالفات، ولكن في غياب تفهمات جوهرية بين مختلف هذه الأطراف فسوف يبقى جلب هذه الدول نحو مواقف موحدة مهمة صعب بشكل كبير.
من ناحية الأخرى فإن العديد من هذه التحالفات تأتي بأثمان باهظة. وتبقى السعودية مضطرة لضخ مليارات الدولارات لصالح كل من مصر والأردن وغيرهما من أجل الحفاظ على ولائهما. وفي حالة تركيا فإن التنافس الجيوسياسي بين البلدين يبقى تحديا أمام قيام أي تحالف استراتيجي بين البلدين.
حضور «بن سلمان»
ويبقى الأمير «محمد بن سلمان» هو أبرز العوامل المشتركة بين هذه المجالس. يمثل «بن سلمان»، اسميا، الجانب السعودي من رئاسة هذه المجالس بصرف النظر عن طبيعة بروتوكولات التنسيق المتفق عليها. ويأتي ذلك انعكاسا للهيمنة المتزايدة للأمير الشاب على مقاليد السياسة الخارجية لبلاده بعد سيطرته بشكل كبير على ملف الاقتصاد. ووفقا لما تشير إليه المصادر فإن بن سلمان كان صاحب اللمسات النهائية على اتفاق ترسيم الحدود بين مصر والسعودية. وبخلاف نشاطه البارز كمهندس للحرب في اليمن فإن «بن سلمان» يفرض أجندته الإقليمية بقوة أيضا مما يثير العديد من التكهنات حول تغييرات قريبة في موازين القوى الداخلية للبلاد.
الخليج الجديد-