في اللحظة الراهنة، فإن الشرق الأوسط هو واحد من ثلاث مناطق من المنتظر أن تحدد مسار السياسة العالمية لسنوات قادمة. وفي حين أن المنطقتين الأخريين، أوروبا بما تعانيه من مشاكل الاتحاد الأوروبي، وشرق آسيا الذي يجيش بالطموحات الصينية، سوف يكون لهما تأثير تدريجي طويل الأمد في مسار العلاقات الدولية، فإن الشرق الأوسط هو ساحة للعنف والدبلوماسية المتطورة والتدفق المتواصل للأحداث ذات الأهمية العالمية. ورغم ذلك، فإنه في الوقت الذي تقوم فيه القوى الإقليمية والعالمية بإعداد تحركاتها هنا فإن أي حدث يمكن أن يحدث في أي لحظة بإمكانه تماما أن يغير من طبيعة الصورة الاستراتيجية. أحد أكثر الديناميات محورية وحيوية في المرحلة الراهنة يتم خلقها من قبل العلاقات بين روسيا والمملكة العربية السعودية. وقد تراكمت الأسباب التي يمكن أن تمهد إلى مواجهة كاملة بين البلدين خلال السنوات الثلاث إلى الخمس الماضية، ومثل هذه المواجهة قد تؤثر تأثيرا كبيرا على عدة مجالات في العلاقات الدولية.
التوترات الحالية بين موسكو والرياض لها بعدين رئيسيين. تختلف المواقف السعودية والروسية على أساس علاقات الطاقة العالمية أولا ثم بشأن مكافحة الإرهاب. كلا البعدين لديهما من العوامل التي تحجب الفهم الكامل لهذه الاختلافات.
أصبحت أوبك عامل تشتيت في المناقشات بشأن الطاقة العالمية. وتشير معظم التحليلات أن أن أوضح مظهر من مظاهر الخلافات الحالية بين روسيا والمملكة العربية السعودية يدور حول كيفية إدارة أسواق الطاقة العالمية وانهيار محادثات أبريل/نيسان في الدوحة. ووفقا لهذا المنطق، فإن روسيا حريصة على تنسيق تجميد إنتاج النفط مع أوبك. ومع ذلك فإن السعودية لا تبدو مهتمة كثيرا بالأمر في الوقت الذي لا تستطيع فيه أوبك التصرف بسبب التنافس بين السعودية وإيران. في الواقع، فإن الفجوة بين نهج موسكو ونهج الرياض في التعامل مع أسواق الطاقة العالمية يذهب إلى ما هو أبعد من محادثات أوبك المنهارة.
التحليل الشامل لسياسة روسيا في مجال الطاقة، وخاصة موقف موسكو بشأن أمن الطاقة العالمي، يقدم وجهة نظر أكثر إفادة الآن. في واقع الأمر، فإن روسيا مهتمة بتحسين سير أسواق الطاقة العالمية بما في ذلك أسواق النفط، وأمن الإمدادات، وكذلك أمن الطلب. في وثائق روسية رسمية، يمكن للمرء أن يجد مقاربة متقدمة لأمن الطاقة العالمي، والتي تؤكد بشكل واضح مصالح روسيا في شبكة علاقات دولية مستقرة في مجال الطاقة. هذا النهج ليستبعد اللجوء إلى استراتيجية أحادية الجانب تهدف إلى الإضرار بمصالح المشاركين الآخرين في علاقات الطاقة العالمية. والسبب في ذلك يبدو بسيطا: روسيا بالتأكيد لا تبشر بقيم الصداقة الإنسانية والتعايش العالمي ولكنها تؤكد بعقلانية على الحاجة المشتركة لمنتجي ومستهلكي الطاقة لتطوير التعاون، لأن التحركات العدوانية دون النظر إلى مصالح الآخرين قد تتسبب في رمي الحجارة على زجاج بيت نظام الطاقة العالمي.
وفي الوقت نفسه، فإن المملكة العربية السعودية تبدو أكثر اهتماما بتحسين مركزها في السوق، في الوقت الذي تقوم فيه بتطبيق رؤية ما يسمى الرؤية السعودية عام 2030، التي تهدف إلى فطم إدمان البلاد على النفط.
في هذا الصدد، فإن أوبك، التي تبقى بالكاد على قيد الحياة، هي الميدان الذي يتكشف فيه صراع الرؤى بين روسيا والمملكة العربية السعودية. تمزج سياسة أمن الطاقة الوطنية الروسية بين عناصر أمن الطاقة لكل من المستهلكين والمنتجين مع إضفاء اهتمام خاصة لعملية نقل الطاقة. ومع كونها تعتمد على أسواق الطاقة العالمية للتنمية الاقتصادية، فقد قضت موسكو العقد الماضي في محاولة تعزيز الحوار بين منتجي الطاقة ومستهلكيها، وكذلك بين صفوف المنتجين، بهدف تحسين أداء أسواق الطاقة العالمية. منتدى الدول المصدرة للغاز، كان أحد المبادرات الروسية التي برزت خلال هذا العقد كمثال على منظمة دولية للطاقة تختلف بشكل جوهري عن أوبك. في حين تم إنشاء أوبك كتكتل يهدف إلى تعزيز حماية مصالح المصدرين على حساب المستوردين، فإن المنتدى هو منظمة مختصة بالصناعة تهدف إلى تحسين كفاءة إنتاج الغاز العالمي من خلال الحوار بين المهنيين. من الصعب جدا القول أن جهود تحسين الكفاءة تلك سوف تضر بمصالح المستهلكين.
تتخذ الرياض مسارا مختلفا. كانت أوبك على مدى عقود في الأساس هي امتداد لصناعة النفط السعودية، وهي توشك على الانهيار في الوقت الذي تواصل فيه المملكة العربية السعودية ضخ مزيد من النفط من أجل سحق جميع منافسيها. على حد تعبير «بلومبيرغ بيزنس ويك» على لسان ولي ولي العهد الأمير «محمد بن سلمان»، عراب السياسات الحالية فإن «الملك المستقبلي المحتمل يؤكد أنه لا يهتم إذا ارتفعت أسعار النفط أو انخفضت. إذا كانت الأسعار مرتفعة فإن هذا يعني المزيد من المال للاستثمارات غير النفطية، كما يقول. أما إذا انخفضت فإن المملكة، بوصفها المنتج الأقل تكلفة في العالم بإمكانها التوسع في السوق الأسيوية المتنامية. وبذلك فإن الأمير يتنصل من عقود من عقيدة النفط السعودية بوصفها قائدا لأوبك».
رهان محفوف بالمخاطر
يبدو الرهان السعودي واضحا ولكنه محفوف بالمخاطر أيضا. الملك «سلمان» وولي ولي العهد الأمير «محمد بن سلمان» أحرار في اتخاذ أي قرار يريدونه، ولكن من الصعب عدم اعتبار بعض أساسات رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030 محفوفة المخاطر بشكل واضح. هناك شكوك كثيرة: منها حول ما إذا كانت المملكة لديها ما يكفي من المال حتى بعد الخصخصة الجزئية لشركة أرامكو، لدفع جميع فواتيرها، والتي سوف تزيد بشكل كبير مع تكاليف الانتقال؟ هل ستكون 14 عاما، حتى عام 2030، فترة كافية لإعداد القوى العاملة لاقتصاد جديد، من المفترض أن يكون غير معتمد على النفط بما يتطلب تغيير عقلية الشعب السعودي، بما في ذلك العديد من أعضاء العائلة المالكة؟ هل ستسمح الأطر الثقافية والاجتماعية والدينية السعودية بمثل هذا الإصلاحات؟ يحب ولي ولي العهد السعودي أن يقارن نفسه بـ«ستيف جوبز» و«مارك زوكربيرج» و«بيل جيتس». ولكن أيا منهم لم يحقق نجاحه في المملكة العربية السعودية حيث لا يزال لا يسمح للمرأة بقيادة السيارة، ناهيك عن قضايا أخرى أكثر تعقيدا.
ويعد دور الإسلام في المملكة العربية السعودية بعدا حيويا في فهم البعد الثاني من الخلافات بين روسيا والسعودية. إذا كانت مشكلات أوبك تظهر خلفية الاختلافات الجوهرية بين سياسات الطاقة السعودية والروسية، فإن الأزمة السورية تعلب نفس الدور في تحليل الفجوة بين مناهج مكافحة الإرهاب في كل من موسكو والرياض. القول بأن روسيا تقوم بحماية رجلها في سوريا، «بشار الأسد»، في حين أن المملكة العربية السعودية تقوم بدعم نضال المعارضة من أجل الحرية سوف يكون تبسيطا مخلا.
لنبدأ مع ما هو واضح: لا بد من التأكيد على أنه من بين العديد من الجماعات التي تقاتل ضد «نظام الأسد»، فإن الجماعات الإسلامية هي الأقوى، بما في ذلك تنظيم «الدولة الإسلامية» سيء السمعة. ومع ذلك إنه بعد أن أصبحت «الدولة الإسلامية» هي العدو الأول للعالم في أعقاب نجاحاتها الأولية في العراق وسوريا ثم انتشارها العالمي، فقد ظهرت هناك العديد من الجماعات التي تظهر نفس القدر من الحماس الديني. السؤال الذي يطرح نفسه ما إذا كانت هذه الجماعات سوف تتوقف عن القتال إذا فازت في سوريا. أم أن ما يجري حقا هو منافسة مثيرة للقلق بين الإرهابيين تتفوق فيها «الدولة الإسلامية» بينما يراود حلم التفوق الآخرين سواء في سوريا أو في غيرها.
الشيء التالي الذي يستحق النظر في تحليل نهج الاختلافات بين نهج مكافحة الإرهاب فيم كل من موسكو والرياض هو حقيقة أن الدعم السعودي للجماعات الجهادية في سوريا كان سرا لبعض الوقت. في الوقت الراهن، تشير بضع التقديرات إلى أن المملكة العربية السعودية وتركيا تحاولان تعزيز وحدة الجهاديين في سوريا تحت إطار جيش الفتح. من قبيل الصدفة، فقد دعا زعيم تنظيم القاعدة «أيمن الظواهري» أيضا لهذا النوع من التوحد.
وأخيرا وليس آخرا، هناك عامل آخر للنظر في تحليل الاختلافات الروسية والسعودية في القتال ضد الجماعات الإرهابية هو أن الفرع الوهابي من الإسلام هو المهيمن في المملكة العربية السعودية، وسبق أن تعاون الدعاة الوهابيون مع الجماعات الإسلامية المسلحة في شمال القوقاز وخصوصا في داغستان. هذا يساعدنا على فهم لماذا تبدو روسيا مهتمة بما يحصل في سوريا، والسبب في عدم شعورها بالارتياح إزاء النهج السعودي.
على نحو مماثل لمعالجة مشاكل الطاقة العالمية، فإن روسيا تقدم مقاربة دولية واسعة في التعامل مع الجهاديين في سوريا وغيرها. العلاقات السعودية مع القوات الجهادية تدق ناقوس الخطر بالنسبة للعديد من المراقبين الدوليين وتساهم في تنامي الشكوك الروسية تجاه السياسات السعودية. ومن الواضح أن البلدين يختلفان بشكل جذري في كيفية تقييمهما لخطر الإسلاموية.
مع تزايد المخاوف في جميع أنحاء العالم على حد سواء تجاه قضيتي أمن الطاقة والتطرف، فإن الاختلاف الروسي السعودي حول هذه القضايا سوف يكون له صدى يتجاوز العلاقات الثنائية. على الرغم من أن البلدين لا يزالان حذرين في تجنب المواجهة المباشرة والخطاب العدائي، فإن تعارض أهدافهما في أسواق الطاقة وفي السياسات في الشرق الأوسط واضح بالفعل. وسوف يظهر المستقبل كيفية تأثير هذا التنافس على ديناميات العلاقات الدولية.
ناشيونال إنترست- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-