تدهورت العلاقات بين روسيا ومجلس التعاون الخليجي بشكل حاد بسبب خلافات بين كل من الجهات الفاعلة حول مستقبل الرئيس السوري «بشار الأسد» منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، وقد دعمت روسيا «الأسد» بقوة، مدعية أن النظام البعثي هو حصن ضد «التطرف الإسلامي». وعلى النقيض من ذلك، فإن دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية تدعم بنشاط خيار الإطاحة بـ«الأسد»، حيث ترى أن زواله من شأنه أن يقلل من نفوذ إيران الإقليمي. وقد تسبب هذا الخلاف، جنبا إلى جنب مع حرب أسعار النفط الروسية السعودية، وفق العديد من خبراء الشرق الأوسط، في القول بأن العلاقات بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي وصلت إلى تراجع تاريخي.
إذا ما أمعنا النظر في الديناميات السياسية في الشرق الأوسط، يظهر لنا أن تصورات وجود أزمة متنامية في العلاقات بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي ليست في محلها. في الواقع، يمكن أن نقول بأن النفوذ الجيوسياسي لروسيا والقوة الناعمة لموسكو في الخليج قد ازدادت منذ بداية ولاية الرئيس «فلاديمير بوتين» الثالثة في عام 2012. وتسعى روسيا من خلال روابط الاستثمار الأقوى والمبادرات الدبلوماسية إلى تكريس دورها الجيوسياسي في الخليج.
لا تمثل روسيا تهديدا لهيمنة المملكة العربية السعودية على كتلة دول مجلس التعاون الخليجي. لكن علاقات أقوى بين موسكو وأقرب حلفاء السعودية تسببت في تقبل بعض دول مجلس التعاون الخليجي لدعوات روسيا لإيجاد حل سياسي في سوريا. إن الخوف السعودي من الانعزال عن إجماع في العالم العربي يمكن أن يجبر الرياض في نهاية المطاف على تفيض نهجها المناهض للأسد سياسيا وعسكريا. هذا السيناريو يختلف بشكل كبير عن المسار تصادمي الإقليمي الروسي السعودي الذي توقعه العديد من المحللين.
وعلى الرغم من الخلافات حول سوريا، عززت روسيا علاقاتها الاقتصادية مع قطر والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والكويت لتحقيق التوازن ضد الهيمنة السعودية في الخليج. وكانت هذه الروابط الاقتصادية ناجحة في حل المنازعات طويلة الأمد التي أعاقت التعاون بين روسيا ودول الخليج منذ عقود.
تلخص مبادرات روسيا الاقتصادية تجاه قطر كيف يمكن أن تخفف الروابط التجارية من الأوضاع العدائية المتأصلة. حيث تم اغتيال السياسي الشيشاني البارز «زليم خان يندرباييف» في الدوحة في عام 2004، هدد السفير الروسي لدى قطر، «فيتالي تشوركين» آنذاك بتدمير قطر في عام 2012، مما تسبب في توتر العلاقات بين «بوتين» والنظام الأميري القطري.
ومع ذلك، فقد حاولت روسيا إيجاد أرضية مشتركة مع قطر من خلال التعاون في قطاع الطاقة. ووسعت شركة الطاقة الروسية العملاقة «غازبروم» تعاونها مع قطر لإنتاج الغاز الطبيعي المسال.
وردا على سؤال حول دعوات وزير الطاقة الروسي لرفع حجم التجارة السنوية بين موسكو والدوحة في يونيو/حزيران، دعا وزير الطاقة القطري «محمد بن صالح» لتوسيع كبير للتعاون الاقتصادي بين البلدين على المستويين الحكومي والخاص، وهذا تحرك عقلاني للدوحة. لذلك، فإن روسيا لديها فرصة لوضع موطئ قدم اقتصادي في دول الخليج التي كانت تاريخيا من أشد الدول عداوة لموسكو.
هناك نمط مماثل يمكن ملاحظته في علاقات روسيا مع دول الخليج الأخرى. وفقا لـ«يفغيني ساتانوفسكي»، رئيس معهد مقره موسكو متخصص في شؤون الشرق الأوسط، فإن التجارة مع سلطنة عمان عززت الروابط بين البلدين بالرغم من التطورات الجيوسياسية الواسعة في الشرق الأوسط. وقد سمح هذا بنمو العلاقات التجارية الروسية العمانية من 13 مليون دولار في عام 2010 إلى 100 مليون دولار في عام 2014.
كما عززت روابط الاستثمار علاقة روسيا مع دولة الإمارات العربية المتحدة، كذلك. وقد استثمر رجال الأعمال الإماراتيين في مرافق للألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 في سوتشي، وساعدوا في بناء ميناء رئيسي بالقرب من سان بطرسبيرغ وتعاونوا مع «روسنفت» في مشاريع تشييد خط أنابيب. وتأتي هذه الصفقات المالية، جنبا إلى جنب مع علاقات تاريخية وثيقة مع الكويت والبحرين. وبذلك تكون روسيا عززت من وجودها الاقتصادي في الفناء الخلفي للمملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من التنامي الكبير في التعاون الاقتصادي بين روسيا ودول الخليج، تكافح موسكو لتطوير شراكات أمنية موثوق بها مع دول مجلس التعاون الخليجي.
هذه التحركات الروسية تسبب بها العديد من صناع القرار في الرياض الذين يرون روسيا كلاعب هامشي في منطقة الخليج. في مقابلة أجراها مؤخرا البروفيسور «مارك كاتز»، وهو خبير بارز في استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط، قال إنه «قبل الأزمة السورية، كانت المملكة العربية السعودية تنظر إلى سياسة روسيا في الخليج كالمرتزقة تماما». كان العديد من صناع القرار في الرياض يعتقدون أن الرياض ستكون قادرة على الحصول التزام روسيا تجاه تفضيلات الرياض عن طريق المزايدات على إيران، وعبر شراء الأسلحة الروسية.
إن الأنشطة الدبلوماسية الروسية في الخليج لا تحركها فقط المصالح الاقتصادية لموسكو. ويعمل صناع القرار في الكرملين بنشاط في دول مجلس التعاون الخليجي من أجل التوصل إلى حل سياسي للصراع السوري ينسجم مع الأهداف الروسية.
عزل الرياض في محيطها الخليجي
كانت عمان والكويت من أكثر دول مجلس التعاون الخليجي استعدادا للنظر بجدية في اقتراح روسيا للتوصل إلى حل سياسي للصراع السوري يضم «الأسد». وفي اجتماع 26 أكتوبر/تشرين الأول، دعم وزير الخارجية العماني «يوسف بن علوي» التفاوض مع «الأسد» كما دعمت البلاد دخول الولايات المتحدة وإيران في مفاوضات الصفقة النووية التي تمت في العام الماضي. وفي حين لا تزال عمان لاعبا هامشيا في منطقة الخليج، فإن دعم أي دولة خليجية هو انتصار من وجهة نظر روسيا، كما أنه يضيف إلى ائتلاف متزايد من البلدان في جامعة الدول العربية تسعى للوصول إلى حل سياسي في سوريا.
وقد رسخت الكويت دورا فريدا في الصراع السوري من خلال تبني الموقف الذي يجمع كل من السعودية وروسيا في منتصف الطريق. وتمشيا مع توافق دول مجلس التعاون الخليجي في الآراء، أعربت الكويت عن التضامن مع الجماعات السورية المعارضة. وقدمت الجهات المانحة الخاصة الكويتية الدعم للقوات المناهضة للأسد في سوريا. ولكن بحلول منتصف عام 2015، فإن الكويت تحالفت أيضا مع روسيا من خلال دعم حل سياسي شامل للصراع السوري وانتقدت نهج الرياض في الحرب ضد الرئيس السوري ضمنا.
على الرغم من أن موقف دولة الإمارات تجاه سوريا كان غامضا في بعض الأحيان، إلا أن رئيس المجلس الاتحادي في دولة الإمارات أشاد بدور وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» النشط في تعزيز مفاوضات السلام في سوريا. وعبر مسؤولون كبار في الإمارات أيضا عن انفتاحهم على إمكانية الوصول إلى تسوية تشمل جميع الأطراف السياسية الرئيسية في سوريا، بما في ذلك الرئيس «الأسد». هذا التحول في موقف أبو ظبي يختلف عن السياسة السعودية في سوريا، وهو يوضح قدرة روسيا على إبعاد دول مجلس التعاون الخليجي بعيدا عن هيمنة الرياض.
من خلال الانخراط دبلوماسيا مع عمان والكويت و الإمارات فيما يتعلق بسوريا، أنشأت روسيا ائتلافا لتحقيق التوازن ضد الكتلة السعودية القطرية التي تهيمن على دول مجلس التعاون الخليجي. كما أن تصاعد النشاط الدبلوماسي الروسي في الخليج قد تزامن مع تعزيز موسكو للعلاقات مع الجزائر والعراق ومصر. إضافة إلى محاولة «بوتين» لتحويل إجماع الجامعة العربية لصالح روسيا.
من أجل توسيع العزلة السعودية، عززت روسيا علاقاتها الدبلوماسية مع البحرين، على الرغم من أن المنامة أصبحت على نحو فعال دولة تابعة للسعودية. استعداد البحرين للمخاطرة بعيدا عن الرياض من خلال توقيع صفقات الأسلحة مع روسيا، والتفاوض علنا مع «بوتين» حول مكافحة الإرهاب، هو انتصار رمزي قوي لموسكو. ويدل أيضا أن الهيمنة السعودية على حلفائها من دول مجلس التعاون الخليجي هي أكثر هشاشة مما يبدو.
ولأن رغبة السعودية تكمن في التواجد في قلب القرار أكثر من اللعب من الخارج، يمكن أن يجبر توافق الجامعة العربية حول سوريا الملك «سلمان» على القيام بالمزيد من المبادرات الدبلوماسية تجاه روسيا وتخفيف العمل باتجاه دعم إسقاط سريع للأسد. ولهذا فإن عملية المصالحة بين روسيا و السعودية من المرجح أن تتم تدريجيا،رغم أن الرياض لا تزال متشككة تجاه النوايا الروسية. وينظر العديد من صناع القرار في الرياض إلى قرار موسكو بالتدخل عسكريا لصالح «الأسد» في سبتمبر/أيلول 2015 مع الدعم الإيراني للأخير، بأنه خيانة في نهاية المطاف. يمكن تفسير حقيقة العداء السعودي تجاه روسيا بالإجراءات العسكرية الروسية التي وقعت بعد أسابيع فقط من المفاوضات بين موسكو والرياض. ومع ذلك، إذا كان يبدو أن إجماع جامعة الدول العربية قد تحول لصالح حل سياسي شامل للصراع السوري، فإن السعودية سوف تسعى للوصول إلى حل وسط مع موسكو.
السلام البارد
يجب أن تكون المملكة العربية السعودية مستعدة لتخفيف وجهات نظرها بشأن سوريا، وروسيا على الأرجح جاهزة لاتخاذ خطوات تذيب جليد علاقتها مع الرياض. وبدلا من المواجهة العسكرية التي كثيرا ما كانت متوقعة، فإنه من المرجح الانتقال إلى سلام بارد في العلاقات الروسية السعودية وذلك لسببين:
أولا: حوار روسيا مؤخرا مع الولايات المتحدة لتوجيه ضربات جوية مشتركة ضد جبهة النصرة دون حدوث خلافات بين موسكو وطهران. تعارض إيران تقليديا مكافحة الإرهاب عبر عمليات مشتركة مع الولايات المتحدة في سوريا. ويبدو أن التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا ضد النصرة سيصبح حقيقة واقعة، وعلى الأرجح ستنسق موسكو الأنشطة العسكرية مع تركيا. إذا وافقت تركيا على الوصول إلى حلول وسط مع روسيا في سوريا، فإن الموقف الجيوسياسي للسعودية سوف يشهد تآكلا كبيرا.
تعاونت السعودية وتركيا على نطاق واسع في سوريا حتى أنهما عملا معا على توحيد الجماعات الجهادية تحت مظلة جيش الفتح. رغبة السعودية في عدم تعريض شراكاتها الحيوية مع الولايات المتحدة وتركيا للخطر، قد تتسبب في دخول الرياض في سلام بارد مع روسيا بشكل افتراضي.
ثانيا، لم تكن روسيا على استعداد لتقديم الضحايا في سوريا على الرغم من أن التحالف بين روسيا وسوريا قد تعزز بشكل كبير بعد 2005. يريد بوتين أن ينأى بنفسه عن الصورة التقليدية بأن روسيا تدعم حصرا الأنظمة الشيعية في منطقة الشرق الأوسط.
هذه المخاوف تعني أن مناورة روسيا مع الحكومة السورية تحركها إلى حد كبير رغبة «بوتين في إظهار أن روسيا هي قوة عظمى ذات نفوذ تمتد إلى ما وراء المنطقة السوفيتية السابقة. لذلك، من المرجح أن تستجيب روسيا لمبادرات تخفيف حدة التوتر مع الرياض. تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية يوسع من قدرات روسيا على إبراز نفوذها في الشرق الأوسط.
مفاوضات صفقة الأسلحة السعودية مع موسكو والثناء الخطابي على روسيا كقوة عظمى هذا العام هي أمور تشير إلى أن الدبلوماسيين السعوديين منفتحين على الدخول في اتفاق مع روسيا بشأن سوريا. لذلك، من غير المرجح انخراط السعودية في أعمال عدائية بشكل علني مثل تمويل المنظمات الجهادية التي تستهدف روسيا بشكل صريح. وبدلا من ذلك، فإن السعودية ستركز جهودها على تقويض الشراكة بين روسيا وإيران من خلال الدبلوماسية السرية وحشد المشاعر المعادية للأسد في جامعة الدول العربية.
باختصار، تستخدم روسيا توثيق الروابط الاقتصادية والمبادرات الدبلوماسية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي باعتبارها نقطة انطلاق لإعادة الانخراط الدبلوماسي مع السعودية بشروط «بوتين». وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية ترغب في إسقاط «الأسد»، فإن أجندة الرياض الرئيسية هي تقليل الاعتماد في أمنها على الولايات المتحدة والحفاظ على موقع السعودية على أنها الدولة الأكثر تأثيرا في العالم العربي. لذلك، من المرجح أن الرد سيأتي إيجابيا على المبادرات الدبلوماسية الروسية. يسعى «بوتين» إلى بناء تحالف عربي واسع النطاق حول حل سياسي للأزمة السورية يضم «الأسد» مع السعودية. يجب أن يواصل «بوتين» تكثيف العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي ليواصل تعزيز نفوذه الخليجي. إن ذوبان جمود علاقات موسكو مع السعودية هو أمر أكثر احتمالا من امتداد العداء لفترات أطول.
ناشيونال إنترست- ترجمة وتحرير أسامة محمد - الخليج الجديد-