بعد الاتفاق التاريخي على تحديد سقف الإنتاج بين الدول المنتجة للنفط، اتجهت الأنظار إلى العلاقات بين العملاقين في قطاع الطاقة (السعودية وروسيا)، حيث كان النظر يقتصر في السابق إلى العلاقات السعودية الروسية، من زاوية المنافسة في أسواق النفط، والمواجهة الصريحة جيوسياسياً، فقد اهتمت موسكو بطهران، واعتبرت الرياض حليف واشنطن في المنطقة. ولكن الزمن تغير، واليوم أمام الدولتين آفاق واسعة للتعاون ومنافع كثيرة مشتركة.
زار السعودية، في الأشهر القليلة الماضية، وفدان رسميان روسيان، الأول في زيارة رئيس جمهورية أنغوشيا، يونس يوفكوروف، ثم تبعتها زيارة لرئيس الشيشان رمضان قديروف، مع مجموعة من المسؤولين. وعلى النقيض من الرحلات السابقة للمسؤولين الشيشان إلى السعودية، ركّزت معظم التصريحات، هذه المرة، على الصداقة والتعاون، كما كانت مشاريع استثمارية محدّدة في قطاع الطاقة على جدول الأعمال.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يعد الكرملين يتحرّك وفق القواعد السابقة. وتسعى روسيا اليوم إلى التخلص من كبوةٍ عانت منها، سببها سقوط الإمبراطورية السوفييتية، فيما تتحرّك السعودية، وبنشاط مكثف لإعادة قراءة المشهد الدولي برمته، والتموضع وفق شروط جديدة.
تدرك الرياض أن روسيا تعود تدريجياً إلى الساحتين الدولية والإقليمية قوةً عظمى، وباتت على صلة مباشرة مع منطقة الشرق الأوسط، وتحاول فرض أجندتها، لا سيما من خلال الساحة السورية، بالإضافة إلى تقدم علاقاتها مع دول في المنطقة، لا سيما مصر وإيران. وتدرك موسكو أن السعودية باتت القوة الأولى التي تتصدر المشهد العربي في ملفاتٍ ساخنة متعددة، خصوصاً المتعلق بالمواجهة مع إيران.
وإلى ما سبق، تبرز عوامل كثيرة حاجة الرياض - موسكو المشتركة للتكامل والتواصل، لا التصادم، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن كلاً من البلدين يمتلك من القوة والنفوذ ما يمكّنه من تعطيل أجندات بعضهما بعضاً.
لم تخف موسكو استياءها مما اعتبرتها "مؤامرة سعودية أميركية"، للتأثير على أسعار النفط. ونفت الرياض بالأرقام ذلك، وتمسّكت بتواصلٍ مع موسكو، للخروج بحلولٍ تنعش سوق الطاقة في العالم، واستوعب الروس الرسالة، ونسّقوا مع المملكة في هذا الملف.
ونقلت صحيفة فيزغلاد الروسية عن الخبير في شؤون الطاقة، رئيس مجلس إدارة شركة كريون إينيرجي (من أكبر شركات الاستشارات في قطاع الطاقة الروسي)، فارس كلزية، قوله "روسيا والمملكة العربية السعودية منافسان جادّان في سوق النفط العالمية منذ 1970، ويستمر هذا التنافس في النمو مع تطور مصادر الطاقة البديلة ومصادر جديدة للمواد الخام، خصوصاً في أسواق، مثل أوروبا وشبه القارة الهندية والصين".
وأضاف "في مرحلةٍ ما، أصبح السعوديون أكثر انفتاحاً، حيث كانت الخطوات الأولى في هذا الاتجاه من خلال المفاوضات بشأن أسعار النفط، وظهر اهتمام سعودي بمشاريع استثمارية مشتركة، وهو نوع من مظاهر الاستعداد للشراكة، إلا أن الأمور لن تذهب إلى أبعد من ذلك".
وأشار كلزية إلى أنه ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن السعوديين المفاوضين أكثر صرامةً من رجال الأعمال من دول عربية أخرى، وأن أسلوبهم في التفاوض يشبه الأنغلوسكسونية، حيث تلقت معظم النخب السعودية تعليمها في بريطانيا والولايات المتحدة.
ويقف البلدان على تناقضٍ في ما يخص سورية، حيث للسعودية موقفٌ حازمٌ في هذا الملف، يتناقض شكلاً ومضموناً مع الموقف الروسي، فموسكو تدافع سياسياً وعسكرياً عن النظام السوري في دمشق، مع أنهم يزعمون دوماً أن الأسد لا يعنيهم بقدر ما يهمهم أمنهم القومي، فيما الرياض مستمرةٌ في معارضة هذا النظام، والدعوة إلى رحيله من خلال المفاوضات، وإلا بالحلّ العسكري.
ظهرت، في الآونة الأخيرة، ملامح علاقة جديدة بين روسيا والسعودية، تهدف إلى حرص البلدين على تنمية علاقاتهما في ميادين عديدة، على الرغم من الخلاف في بعض الملفات، فمقومات كلا البلدين قادرة على أن ترتقي بالعلاقة، وهناك اعتقاد سائد بأن تلك الإمكانات لم توظف كما يجب، فحجم التبادل التجاري بين الجانبين بلغ 1.46 مليار دولار عام 2015، ومن المتوقع أن يصل إلى 10 مليارات دولار عام 2025. كما أن 23 مليون روسي مسلم يرتبطون روحياً بالسعودية، وهذا الملف مفصلي في الدفع باتجاه توطيد العلاقات بين البلدين.
وكانت قد أبرمت اتفاقات كثيرة في أثناء زيارة ولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، روسيا قبل عدة أشهر، وهي الزيارة التي علقت عليها صحيفة كاميرسانت الروسية بأنها زيارة "هدفها إزالة الجفوة والفجوة في العلاقات بين البلدين"، ويكشف عدد الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها في تلك الزيارة وطبيعتها تطوراً نوعياً في مسار العلاقات.
وقد حدثت تلك الزيارة في وقتٍ تحتدم فيه الأزمات الإقليمية، وتتشابك بشكل كبير في ظل ما تتسم به الرؤى الغربية، لحل تلك الأزمات بالبطء وعدم الوضوح، فيما كانت الرؤية السعودية تقتضي تنويع خياراتها الدولية، من أجل تحقيق التوازن الإقليمي، فالدور الروسي تجاه أزمات المنطقة يعد مهماً بالنظر إلى تأثير روسيا على بعض أطراف النزاع.
كانت زيارة محمد بن سلمان نقلة نوعية على صعيد العلاقات بين الجانبين، مع وجود آلية مهمة للتنسيق بينهما، وهي الحوار الروسي - الخليجي الذي يعقد سنوياً، ويتم من خلاله تبادل الرؤى حول قضايا بين الجانبين على المستويين الإقليمي والعالمي. بالإضافة إلى حديث عن زيارة مرتقبة للعاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، لموسكو لتتويج هذه العلاقات.
لم تستخدم موسكو حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد القرار 2216 المتعلق باليمن، والذي منح السعودية الشرعية الدولية للتدخل على رأس تحالف "عاصفة الحزم" هناك، وهو ما اعتُبر مناقضاً لموقف إيران ومصالحها في اليمن.
المؤكد أن الرياض باتت لا تضع بيضها في سلةٍ واحدةٍ، على الرغم من علاقتها التاريخية مع واشنطن، وبدء أي علاقة مميزة لها مع موسكو يدخل ضمن معادلة موازين القوى الجديدة، بعد تراجع الدور الأميركي.
يبقى القول إن من الضروري أن تتفهم روسيا مصالح السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً المخاوف تجاه التسلح الإيراني، وهو ما تسهم فيه روسيا بنسبة كبيرة.
باسـل الحـاج جـاسـم- العربي الجديد-