(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
تسير الأمَم والشّعوب الرّاغبة –فعلًا وقولًا- في التّغيير على منهج من العقلانية المعزّز بحوار مجتمعي، يضع كلّ أمرٍ في نصابه، ولا يجري لاهثًا خلف كلّ سراب يلوح في الأفق، بل يرسم طريقًا جديدًا نحو الأهداف الكبرى للدولة والشعب، قد يمضي للأمام أحيانًا، أو يتراجع خطوة أو اثنتين على الطريق، لكنّه لا يبعد ناظريه عن الهدف والأمل.
لا توجد دولة على وجه الأرض، وفي التاريخ الإنساني المعروف لنا، تقدّمت أو وصلت إلى ما ترجوه بغير تجنيد وحشد كامل طاقاتها لجني ما تُريده من العالم، في عملية يسبقها ويجاورها حوار شفّاف يستولد الأفكار ويُحاول إعادة رسم الحقائق وبناء المؤسّسات ووضع النّظريات ومنظومة القيَم التي تحكم عملية الانتقال، في إطار أوسع يستهدف خلق تصوّر شامل للقضايا والتّحديات الوطنية، ليضمن النّجاح في نهاية الطريق الصعب.
من السّخف والخفّة أن ينظر أي مواطن سعودي، أو خليجي بشكلٍ عام، إلى الارتفاع المذهل في أسعار النّفط باعتباره فرصة مجّانية ساقتها الأقدار، فضلًا عن أن يكون هذا هو موقف مسؤول أو حاكم، الارتفاع الجنوني الحالي في الأسعار مؤقّت، بفعل صدام هائل يجري عسكريًا في أوروبا، ويجري ساخنًا بدرجة أقل في عدد من المواقع حول العالم، وفي ظلّ هذا الصّراع فإنّ التقلبّات الحادّة السريعة، وربّما اليوميّة، ممكنة وستحدث.
صحيح أنّ كلّ موازنات الدول البترولية ستنتعش بشكلٍ كبير، وستعبر سنوات الأزمة الطويلة التي سادت فيها أسعار للنّفط هي أقلّ ممّا تتحمّله المصروفات الكبيرة للدول الخليجية خصوصًا، وصحيح أنّ تبعات الأزمة من زيادة أسعار الأغذية أقل بكثير جدًا من عوائدها المحقّقة، لكن هذا كلّه يبقى في إطار "ضربة حظ" جاءت، وقد تذهب في لحظة دون أيّة مقدّمات.
ولوضع النّقاط على حروف الارتفاع الحالي في أسعار النّفط، فإنّ الموازنة السعودية تشهد عجزًا مستمرًا منذ العام 2014، حين كانت مستويات سعر برميل النّفط تدور حول 100 دولار، ثمّ أخذت مسارًا هبوطيًا طويلًا، وسبق أن كشفت شبكة "بلومبرغ" الاقتصادية أنّ سعر التّوازن الذي يُبقي الموازنة السعودية دون عجز هو 70 دولارًا للبرميل، وبالتّالي فإنّ موازنة العام الحالي 2022 من المفترض أن تحقّق فائضًا هائلًا، مع الأسعار التي تدور حول 130 دولارًا، وربّما ترتفع أكثر خلال الأسابيع والشهور القادمة.
لكن كلّ هذا مؤقّت، ولا يقود إلى تخيّل نتائج رائعة للمشروعات الاقتصادية التي استنزفت الكثير من احتياطيّات المملكة طوال الأعوام الماضية، فمشروع التحوّل الاقتصادي 2020 أو رؤية المملكة 2030، لم يحقّقا الوعد بتقليل الاعتماد على النّفط كمصدر شبه وحيد للإيرادات، ولم يقودا القاطرة إلى عصر التّصنيع أو النّهضة المفترضة، وبالتّالي من المؤكّد أنّ اللّحظة الحاليّة تستحق وقفة قبل تبديد الفوائض القادمة في مشروعات فاشلة أخرى.
هذه اللّحظة تحديدًا تحتاج إلى رغبة سياسية في الإصلاح، وعقول واعية ترى في سابق المسيرة فشلًا، كي تحاول تصحيح المسار، وتخاصم المؤسّسات والهيئات التي وضعت خطّة التحوّل الوطني والرؤية وغيرها، وقبل كلّ شيء، تحتاج إلى حوار مجتمعي جاد، يستشعر وجود رواسب للأزمات وأسباب كثيرة جدًا للغضب والألم.
من السّهل على المملكة وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان أن يمرّر عبر إعلامه وماكينته الدعائيّة أنّ المملكة تحقّق الإنجازات تلو الإنجازات، وأنّ حربًا مدمّرة في أوروبا تسبّبت في ارتفاع أسعار النّفط مردّها حكمة القائد والزّعيم المُلهم، وأنّ الفوائض الضّخمة تحقّقت عبر سياسات الحكومة الاقتصادية الرّشيدة، لكن الأسلم والأصعب أن يوضع كلّ شيء في نصابه، وأن تكون الانفِراجة الحالية فرصة جديدة للانطلاق.
هذه الحقيقة البسيطة لن تنقلها الصّحافة ولا الإعلام في المملكة، مع السّيطرة الحكوميّة عليها، وسقوط الكتاب والمؤلفين في براثن الحاجة إلى من ينشر ومن يدفع، ولن يجرؤ على تقديم رؤية جديدة للعالم كما هو، دول كبرى تسعى لفرض سيطرتها السياسية، وشركات ترغب في امتصاص ثروات الشعوب بأي طريقة كانت، وفساد يمنح الغرب الفرصة لشراء الذّمم الخربة، والكلّ يجتهد لتمييع الحقائق وتغييبها.
وفي مُقابل العقل المطلوب، وبشدّة، لعبور المرحلة الحالية الصّعبة، بكلّ ما تحمله من تحديات ومفاجآت وأحداث ساخنة، فإنّ الأخطر على الإطلاق هو استبدال التّقارب بالسيطرة، واحتضان المختلفين بعصرهم، ووضع أحدث منتجات العصر في خدمة القَمع والتّضليل، مع اتّساع الفجوة بين المطالب والمتحقّق فعلًا وبين الأقوال والأفعال، وبين المعلَن من السياسات والمستتر منها وراء الكواليس.