(مبارك الفقيه\ راصد الخليج)
ماذا يجري في واشطن؟ هل فقدت الدّولة العميقة في الدولة الأمريكيّة صوابها على شاكلة رئيسها "الطّفل الضّائع" حتّى تندفع في خياراتها الهستيريّة المُتأرجحة مع الكوميدي الأوكراني؟ "إنّها إدارة أطفال"، هذا كان تعليق صديقي الدّبلوماسي العتيق الذي أمضى سنوات طويلة في كواليس السّياسة الدّولية، وهو يقرأ خبر تناقص احتياطي النّفط في الولايات المتّحدة؛ فهل هي فعلاً إدارة أطفال أم أنّها خطّة استراتيجيّة فاقة الذّكاء عصيّة على فهمنا نحن العرب؟! الجواب عن هذا السؤال "المُعضلة" يصطدم بمجموعة من الوقائع التي لا تغفل بوضوحها عن مبتدئ في مهنة البقالة - مع احترامنا للبقّالين – فكيف بخبراء السياسة والنّفط والاقتصاد والتّنمية المُستدامة؟!
كل أسهم المؤشّرات الحيويّة للاقتصاد العالمي تتّجه نزولاً، وكلّما صعد الرّئيس جو بايدن منبراً ليُطمئن به المجتمع الأمريكي تزداد المؤشّرات هبوطاً في أسهمها المُتهالكة، فيما معظم دول العالم أصبحت في منتصف الطّريق في عملية تنويع نقده الاحتياطي، وهذا يعني أنّ الدولار لم يعُد العُملة الوحيدة التي تعتمدها الدول ذات الإقتصاديّات الكبرى، ويبرز الرّوبل الروسي واليوان الصيني في مقدّمة هذه العملات، أمّا معدّل استثمارات الدول في سندات الخزينة الأمريكيّة فقد هبطت بنحو سبعين مليار دولار في عام واحد، والأيام المُقبلة تبشّر بأرقام إضافيّة متزايدة خصوصاً إذا نفّذت الرّياض تهديدها بالتخلّص من من سندات الخزانة الأمريكية - وقيمتها نحو 122 مليار دولار - إذا اتّخذ الكونغرس الأمريكي قرارات عقابيّة ضدّ منظّمة "أوبك".
تبقى الخطوة الأكثر مدعاة للتوقّف عندها هو اضطرار إدارة بايدن إلى المزيد من النّزف الوجودي بفتح خزّانات احتياطها الاستراتيجي من النّفط، عبر ضخّ 180 مليون برميل لمواجهة ارتفاع أسعار النفط، وهي خطوة لم تكن لتحصل لولا "الصّفعة" التي وجّهتها المنظّمة لواشنطن برفضها زيادة إنتاج النّفط، لا بل وبخفض الإنتاج بواقع مليوني برميل يومياً، وهو ما لم تستطع واشنطن تحمّله، وهي المتورّطة حتّى أذنيها في دعم أوكرانيا بحربها ضدّ روسيا وتمويلها بجسر من الأسلحة والذخائر إلى درجة أفرغت نصف المخزون الأمريكي، وهي تواجه اليوم مشاكل مالية واجتماعية فعلية لا تعكسها وسائل الإعلام، ولكن صداها يتردّد في الصراخ الذي يعلو في العواصم الأوروبية المنقلبة بعضها على بعض.
ظنّ بايدن أنّ المملكة السعودية، باعتبارها الحديقة الخلفيّة للسياسة الأمريكيّة في المنطقة، ستفتح أبوابها وتشرّع نفطها ومقدّراتها للرّئيس المأزوم، وستلقى أوامره سمعاً وطاعة، تبعاً للمأثور من التصرّف العربي، الذي طالما كان يهرع لإنقاذ الولايات المتّحدة في ساعات الحرج وتعقيدات الأزمة، إلّا أنّ المواقف السّعودية – منذ أن بدأ صراع الإلغاء بين الشّرق والغرب في شباط الفائت – كانت دائماً تُفاجئ عواصم القرار العالمي، بجُرأتها أوّلاً وتعارُضها مع أوامر السيّد الأمريكي ثانياً، ولكن ثالثاً الذي لا تأبه به واشنطن هو مصلحة المملكة والعرب التي قفزت إلى مصاف الدّرجة الأولى في اهتمامات أصحاب القرار في السعودية.
يضع البعض الموقف السّعودي في خانة الكيديّة السياسيّة والنّفور الشّخصي بين ولي العهد الشّاب محمد بن سلمان والرّئيس الهرم جو بايدن، كردّ فعل على اتّهامات واشنطن لابن سلمان بالوقوف وراء اغتيال الصّحافي جمال خاشقجي، والمناكفات التي حصلت في رفض بايدن تلقّي اتّصال هاتفي من ابن سلمان، وإرغام بايدن في وقتٍ لاحق على زيارة الرّياض وتخريبها بإثارة موضوع حقوق الإنسان في المملكة، وغير ذلك من نقاط التوتّر التي ساهمت في زيادة مسافة التّباعد بين الرّجلين والعاصمتين على حدٍّ سواء، يُضاف إلى ذلك حملات التّشويه الشّعواء التي شنّتها وسائل الإعلام الأمريكيّة على المملكة وولي العهد.
إلّا أنّ تفاعلات الأزمة، وتصاعد المواقف السلبيّة والإجراءات المتبادلة بين واشنطن والرّياض، بدأت تتّخذ منحًى آخر وضعها مراقبون في إطار إرهاصات خصومة أخذت تتبلور بشكلٍ واضح تحت عنوان "تمرّد" الملك الشّاب على أقوى دولة في العالم بشكلٍ يخالف المعهود ومقتضيات تاريخ العلاقة بين الجانبين، وما زاد في حماوتها الإتّجاه الصّريح للرّياض نحو موسكو والصّين الدّولتين اللّدودتين في العداء للولايات المتّحدة الأمريكيّة، ما دفع بايدن للإعلان بأنّه يعتزم إعادة النّظر في العلاقات الأمريكيّة – السعوديّة، وهذا يعني بحسب المراقبين أنفسهم بأنّ واشنطن تعدّ لحزمة إجراءات حازمة ضدّ الرّياض بما يضعها بين خيارين لا ثالث لهما، إمّا المُضي في مسار التمرّد أو الانصياع والعودة إلى الحظيرة الأمريكيّة والقبول بالعقاب التأديبي، مع ما سيُرافق هذه العودة من إجراءات تكبّل القرار السّيادي السّعودي لضمان عدم تكرار فعل التمرّد والتّغريد خارج السّرب الغربي.
يُدرك المسؤولون السعوديون أنّهم لا يستطيعون الاستغناء عن الولايات المتّحدة كشريك سياسي – أمني استراتيجي، ولكنّهم يُدركون أيضاً أنّ الحاجة باتت مُتبادلة – مع اختلاف المعايير والمقادير – خصوصاً بعدما تبيّن أنّ النّفط والغاز لا يزالان مورداً طاقويًّاً محورياً في حركة الكون، وأنّ الوقت لم يئن بعد للاستغناء عنهما واستبدالهما بموارد الطّاقة البديلة، والحرب الروسية - الغربية خير دليل على ذلك، فضلاً عن بَدء دخول أوروبا في عصر الاحتضار المتجمّد؛ وتبدو خيارات واشنطن محدودة في التّعامل مع "التكويعة" السعوديّة نظراً لانشغالها في استيعاب الانهيار الأوروبي الآيل إلى التّصادم الوشيك بين مكوّناته المشتتّة من جهة، ومن جهة ثانية تكوين جبهة في الشّرق الأقصى للَجم التّنين الصّيني والمُشاغب الكوري الشمالي، وبالتّالي فإنّ للمملكة خياراتها المُريحة أكثر.
يبرّر المُراقبون هذه المقولة بقدرة المملكة على التّموضع الدّائم في الوسط، متسلّحة بموقعها الجغرافي وتكاملها الطّاقوي مع دوَل الشّرق مُقابل النّهم والجوع الغربي المُستدام لمصادر الطّاقة، فهناك في الشقّ الذي لا يهدأ من العالم جشع لا يتوقّف عن الاستهلاك، فيما نحن هنا في وسط العالم قادرون على فتح مجالات الاستثمار النّافع بحيث نستطيع التخلّص من ربقة التّبعية للتفوّق الصّناعي الغربي، وهو ما بادر إليه ابن سلمان عبر تأسيس خمس شركات إقليمية استثمارية في كلّ من الأردن، والبحرين، والسودان، والعراق، وسلطنة عمان، وتأتي هذه الخطوة بعدما خرّبت الولايات المتّحدة مشروع الحلم (نيوم) وفق رؤية 2030، وبالتّالي فإنّ واشنطن تقرأ هذا الأمر بحذر وريبة، بحيث تعتبره مؤشّراً إلى اتّجاه قد يؤدي مستقبلاً إلى استقلاليّة كفائيّة في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا مقابل حاجة أوروبية – أمريكيّة مُتزايدة.
حسناً فعل ابن سلمان، ليس فقط لأنّه تجرّأ ورفض الأمر الأمريكي - الغربي، أو لأنّه يتماهى مع الإتّجاه الرّوسي - الشّرقي، بل لأنّه يستعيد شيئاً من الشّخصيّة العربيّة المهدورة والمصادرة من قبل الغرب، ولكن الأمل ألّا تكون هذه المواقف محصورة بخلاف شخصي يزول بزوال بايدن، ومن ثمّ يعود إلى سابق عهد التبعيّة مع رئيس آخر.. هنا يلتفت صديقي الدبلوماسي نحوي، وبسخرية مبطّنة يقول: مواقف الرّجال تظهر عند النّزال.