(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
تشهد المنطقة سلسلة متتالية من التطورّات السّياسيّة تؤذن بقرب استحقاقات مصيريّة ستترك، ممّا لا شكّ فيه، تداعياتها على صورة التّشكيل المقبل للعالم الجديد. ولا تقف المملكة العربيّة السّعوديّة بعيدًا عن هذه التطوّرات؛ بل يمكن تلمّس دور محوري لــــ"الرّياض" في رسم تفاصيل ما قد يجري، بعدما أصبحت في قلب معادلة مثّلثة الأطراف.
إذ تجد "الرّياض" نفسها متمركزة وسط هذه الأطراف، وهي معنيّة بالحفاظ على دائرة في قلب المنتصف تتساوى أقطابها في المسافات والمصالح، مع ما لهذه الأطراف من تأثيرات مباشرة على المشاريع التي يسعى وليّ العهد "محمّد بن سلمان" إلى تنفيذها في رؤيته المستقبليّة للمملكة. وهو يعلم، تمامًا، أنّ أي تقاطع بين هذه الأطراف لن يكون سهلًا، أو قد لا يجد طريقه إلى التطبيق الفعلي. وتاليًا؛ فإنّ "الرّياض" مضطرة إلى سلوك مسارات حرجة ودقيقة تحفظ فيها كيانها الوجودي، وتأخذ دورها الرّيادي كونها محور الاستقطاب في المنطقة.
الطّرف الأوّل: "إسرائيل"
تقف "إسرائيل" على الطّرف الأوّل في المعادلة، فهي تريد بقوّة التّطبيع مع السّعوديّة؛ وذلك لاستكمال خطوات "اتفاق إبراهام" للعام 2020، وإتمام مدّ أذرعها السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة في منطقة الخليج. إذ يحرص "بنيامين نتنياهو" على التأكيد بأنّ ذلك يعدّ "خطوة كبيرة نحو إنهاء الصّراع العربي – الإسرائيلي"، ولما لهذه الخطوة من "نتائج تاريخيّة كبيرة بالنسبة إلى "إسرائيل" والمملكة والمنطقة، والعالم بأكمله". لكنّه، في المقابل، يأمل، ومعه مختلف شرائح السّياسة الإسرائيليّة، أن لا يحصل اتفاق أمريكي - إيراني حول الملف النّووي. إذ يطلق هؤلاء مواقفهم بالترافق مع استعراضات ناريّة، استدراجًا لتشدّد أمريكي باتجاه وضع حدّ لاستمرار إيران في تطوير برامجها النوويّة بذريعة أنّ "طهران تتحوّل إلى تهديد عالمي يهدّد الاستقرار في الشّرق الأوسط"، وفاقًا لما عبّر عنه وزير الدّفاع الإسرائيلي السّابق "بيني غانتس".
الطّرف الثاني: الولايات المتّحدة الأميركيّة
على الطّرف الثاني، تقف الولايات المتّحدة محافظة على نظرتها إلى المملكة السّعوديّة، كونها تحتلّ موقعًا استراتيجيًا في قلب المنطقة الفاصلة بين الشّرق والغرب، ومصدرًا حيويًا للطاقة لا غنى عنه. وتكرّس هذا الأساس في الأزمة التي نشأت بفعل الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، فضلًا عن أهميّة التزامها "بمحاولة احتواء التوسّع الإيراني في العالم العربي". فقد كان وزير الخارجيّة "أنطوني بلينكن" واضحًا، في كلمته أمام مؤتمر "إيباك"، حيث حدّد الوجهة التي يجب النّظر إليها في سلّم الأولويّات الأمريكية، فإنّ واشنطن ترى- بحسب قوله : "مصلحة في دعم التّطبيع بين السّعوديّة وإسرائيل"؛ على أساس أنّ "اندماج إسرائيل في محيطها يجعل المنطقة أكثر أمنًا وازدهارًا".
على خط موازٍ؛ لا تختلف واشنطن مع "تل أبيب" في النّظرة إلى إيران، كونه "التهديد الأكبر والرّئيس لأمن إسرائيل"، ولكنّها تأمل في توقيع اتفاق نووي مع طهران، حتّى لو كان بصيغة اتفاق مؤقت، رغم معارضة إسرائيل لذلك. إذ يصرّ الأمريكيّون على أنّ أي ردع لإيران لا بدّ أن يأتي من خلال الدّبلوماسيّة، والدّبلوماسيّة فقط،
بانتظار نتائج ما ستسفر عنه الوساطة العُمانية، والتي يبدو أنّها قد نجحت في تحريك المياه الراكدة على أكثر من صعيد؛ إضافة إلى السّماح الأمريكي للعراق وكوريا الجنوبية بالإفراج عن الأرصدة الإيرانيّة المجمّدةـ هي خطوة على طريق تعبيد الطريق نحو ترتيب اتفاق يحفظ ماء الوجه للأطراف كلّها، ويحمل معه بذور طمأنة لـــــ"إسرائيل"، ووعود كبيرة لــــ"الرياض" في مجال مفتوح يضمن لها تنفيذ مطالبها الحيويّة وفاقًا برنامج لزمن محدّد.
الطّرف الثالث: إيران
على الطّرف الثالث؛ تقف إيران التي تندفع بزخمٍ كبيرٍ على المسرح الدّوليّ، بما يجعلها قوة فاعلة تدخل في صياغة أي تشكيل مستقبلي لتحالف القوى في المنطقة والعالم. فهي حليفة لكلٍّ من موسكو وبكين، وتحافظ على حضورها المحوري في النصف الشّرقي من الكرة الأرضيّة من جهة، وتعادي الولايات المتّحدة وإسرائيل من جهة ثانية. وهي، أيضًا، تمدّ يد التلاقي مع المملكة وسائر الدّول العربيّة في عمليّة إعادة نسج للخيوط العربيّة – الإسلاميّة من جهة، ومن جهة ثانية تعمل على فرض نقطة الوسط الجيوسياسيّة، بصفتها كيانًا لا يستهان به في العالم.
فما تحويه المنطقة من قوى ودول لها ثقلها البشري والاقتصادي والتجاري، وما تمتلكه إيران من قدرات طاقويّة حيويّة تجعل منها قبلة الدّول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي تسعى لاستعادة نفوذها المتشظّي في العالم.
ماذا تريد الرّياض؟
تريد "الرّياض" التّطبيع مع واشنطن بالدرجة الأولى، وذلك لإعادة وصل ما انقطع مع إدارة "جو بادين"، ولكن وفاقًا لشروط وظروف مستجدّة فرضتها "التحويلة" السّعوديّة نحو الشّرق والانفتاح على إيران وسوريا وإعادة ترتيب العلاقات السّعوديّة في المنطقة ككلّ، ومن ضمنها التّطبيع مع إسرائيل. وفي مقدّمة هذه الشّروط السّماح للسعوديّة بأن تكون كيانًا سياسيًا مستقلًا على قدم المساواة مع الدّول الكبرى لجهة امتلاكها برنامجًا نوويًا خاصًا بها، وتسليحها بالقدر الذي يجعلها قوة إقليميّة قادرة على الدّفاع عن نفسها تجاه أي أخطار خارجيّة طارئة، وعدم عرقلة الخطوات أمام مساعيها لتحجز مكانها في المعادلات الإقليميّة والدّوليّة. هذا بالإضافة إلى المحافظة على تزعّم القرار العربي الذي تحاول كلّ من دولة الإمارات العربيّة وقطر اختلاسه من "الرّياض"، بدعم أمريكي وإسرائيلي وأوروبي، فضلًا عن وضع حلّ للقضية الفلسطينية بشكل يرضي الفلسطينيين وتحت مظلة سعوديّة – عربيّة – إسلاميّة.
محوريّة القوّة السّعوديّة
إنّها مطالب طموحة ومحقّة، وتعدّ تطورًا استراتيجيًا في الفكر السّياسي السّعودي. ولكنّ المشكلة ما تزال تكمن في العقليّة الأمريكيّة – الأوروبيّة، ومعها النّظرة الإسرائيليّة، للعرب ولشعوب الخليج وأنظمتها، والتي تحرص على جعل العرب دائمًا في موقع الضعيف والمستهلك والمحتاج إلى مظلّة الحماية الغربيّة. ومن هنا؛ فإنّ تحقيق هذه المطالب سيكون صعبًا جدًا، وسيعتمد على قدرة "ابن سلمان" على استيعاب الضغط والالتفاف وتجييرها لمصلحته.
ولئن نجحت إيران في فرض وجودها، بصفتها دولةً تضع شروطها على الطاولة الدوليّة قبل البدء في أي تفاوض، فإنّ الرّياض تمتلك بدورها العناصر الكاملة التي تؤهّلها لتكون دولة مستقلّة في قراراتها السّيادية في مختلف شؤونها القوميّة والاستراتيجيّة. وبدل أن تكون السّعوديّة محور استهداف من الأطراف المحيطة، فهي قادرة على أن تجعل موقعها المحوري نقطة استقرار لهذه الأطراف، مهما اختلفت ظروف تشكيل هذه المعادلة.