ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-
ربما لم تتضح بعد التداعيات الكاملة للمشاركة الروسية المتنامية في الصراع الدائر في سوريا في صورة تدخل عسكري معلن. حتى الآن، تدعم موسكو لنظام البعث الرئيس السوري «بشار الأسد»، بالتنسيق مع الدعم المستمر التي تقدمه إيران وحزب الله، وقد أثبت هذا الدعم أنه أصبح حاسما في مواجهة المتمردين أكثر من أي وقت مضى.
وبالرغم من الحصار المفروض عليه، لا يزال النظام البعثي بلا شك الممثل الأقوى في الحرب الأهلية في سوريا. تم تشويش الصراع بعد تدخل فصائل المعارضة المسلحة التي تمثلها التيارات الإسلامية الراديكالية بقيادة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وجبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سوريا، ومجموعة أخرى من المسلحين الإسلاميين المتشددين مما تسبب في تعميق الانقسام الأيدولوجي بين المعسكرين. ويبقى المعسكر الأقل تأثيرا هو ذاك الذي يمثله الجيش السوري الحر الذي يتلقى الدعم المعنوي والعسكري من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى إضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي.
جاء تدخل روسيا المباشر في شكل غارات جوية وعمليات عسكرية أخرى في دعم النظام البعثي العميق. في حين أن النقاش الدائر حول الأهداف الاستراتيجية لموسكو في سوريا لا يزال خاضعا للحدس، فإن هناك خلافا كبيرا حول قدرة روسيا على التأثير على مجريات الصراع. وفي الوقت نفسه، لا يمكن النظر إلى تصاعد التدخل الروسي في سوريا في فراغ من الأنشطة والملاحقات من الجهات الخارجية الأخرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
الصراعات الاجتماعية والأيديولوجية وصراعات المصالح التي تقف خلف الحرب الأهلية في سوريا، قد تم تعقيدها عبر صراعات أخرى بالوكالة متعددة الطبقات تمزق الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، فإن تأطير المواجهة القائمة بين روسيا والمملكة العربية السعودية أمر بالغ الأهمية لتفريغ أحد أوجه المأزق السوري. بينما كان يجري اجتماع أكتوبر/ تشرين الأول بين نائب ولي العهد السعودي الأمير «محمد من سلمان»، والرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في سوتشي، روسيا، كان بيان قد صدر من عدد من أبرز رجال الدين في المملكة يدعو المسلمين إلى الجهاد ضد روسيا. هذا يخبرنا بأن الصدام الروسي السعودي حول سوريا يحتاج إلى المزيد من الدراسة.
تقارب عابر
رغم التدهور الواسع المنتظر في العلاقات السعودية الروسية بسبب الأزمة في سوريا، فإن العديد من المراقبين كانوا قد أكدوا وجود تحولات إيجابية في العلاقة بين الخصمين قبل أشهر فقط من قصف موسكو للجماعات المعارضة المسلحة في سوريا. الظروف المحيطة باجتماع يونيو/ حزيران بين «بوتين» و«محمد بن سلمان» شاهدة على ذلك. اللقاء التاريخي على هامش منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي الدولي، شهد توقيع 6 اتفاقيات تنظم مجالات النفط والغاز الطبيعي وأبحاث الفضاء، والاستخدام السلمي للطاقة النووية وتبادل التكنولوجيا النووية والعسكرية والتعاون السياسي والتقني. وفي إشارة إلى الزخم الكبير لمحادثات يونيو/ حزيران، فقد دعا «بن سلمان»، «بوتين» لزيارة المملكة، في حين دعا «بوتين» الملك «سلمان بن عبد العزيز» لزيارة روسيا.
ويمكن تفسير التحول الإيجابي في العلاقات بين روسيا والمملكة العربية السعودية بعدة عوامل. من بينها الانفراجة الدبلوماسية المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني. تأثير الاتفاق بين إيران والدول الكبرى لا يزال يتردد صداه داخل المملكة العربية السعودية. في مقابل موافقتها على عدم الاستمرار في برنامج للأسلحة النووية، فإن إيران قد ضمنت رفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
الاتفاق التاريخي يضع الأساس لإعادة تأهيل إيران للاندماج داخل المجتمع الدولي. إن عودة إيران إلى الساحة العالمية سوف يكون له آثار استراتيجية بعيدة المدى على المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط وأسواق الطاقة العالمية. على الرغم من تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وتأكيدات من واشنطن بشأن التزامها بالحفاظ على علاقات وثيقة مع الرياض، فإن المملكة العربية السعودية تخشى أن الانفراج الناشئ بين واشنطن وطهران ينذر في نهاية المطاف بإعادة تشكيل المشهد الإقليمي والدولي على حساب المملكة العربية السعودية ومصالحها. ففي حين تروج السعودية لنفسها باعتبارها المنتج الرئيسي والمتحكم في سوق النفط الخام، فإن احتمالية أن إيران، وهي أحد بيوت القوة في مجال الطاقة، سوف تدرك إمكاناتها كمنتج ومصدر لكل من النفط الخام والغاز الطبيعي يمثل سببا آخر لقلق بالغ في الرياض، التي تخشى التعامل مع زيادة المعروض الإيراني والآثار السلبية المنتظرة على أسعار الطاقة. كانت إيران قد أثارت بالفعل اهتماما كبيرا من كبرى شركات الطاقة الدولية الحريصة على جني الثمار الإيرانية الغير مستغلة في قطاعي النفط والغاز الطبيعي.
ونتيجة لذلك، تمت صياغة منطق الانفتاح الواضح في المملكة العربية السعودية في التعامل مع روسيا باعتبارها محاولة من جانب الرياض لتنويع محفظتها من العلاقات الدبلوماسية لتخفيف اعتمادها على واشنطن . وبالمثل، استعداد روسيا الواضح عل زيادة التعاون مع المملكة العربية السعودية هو أيضا يستحق المشاهدة من خلال منظور الاتفاق النووي الإيراني. حيث ينبغي إعادة النظر بشكل أعمق في موقف روسيا من هذا الاتفاق.
على السطح، رحبت روسيا بالاتفاق. ومع ذلك، فإن احتمال إعادة إيران إلى المجتمع الدولي يضع روسيا أمام العديد من التحديات. وقد استفادت روسيا بنجاح من العزلة الدبلوماسية والاقتصادية الإيرانية على مر السنين. من وجهة نظر الكرملين، فإن الأعمال العدائية بين الولايات المتحدة وإيران، في جزء كبير منها، تسهم في تشتيت واشنطن مما اضطرها إلى تكريس الاهتمام والموارد التي يمكن أن تكون مكرسة تجاه موسكو. وقد عززت روسيا من نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي على إيران. كمنتج رئيسي للنفط والغاز الطبيعي، ساعدت العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران على حماية حصة روسيا في السوق مع خطط تسعير جيدة كما وفرت لها آفاقا للاستثمار في قطاع الطاقة الإيراني. يستعد قطاع الطاقة الإيراني لمنافسة المصدرين الروس في السوق الأوروبية الحيوية.
ساعدت عزلة إيران أيضا على تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الوثيقة بين موسكو وطهران إلى علاقات من نوع خاص. وجدت روسيا قضية مشتركة مع إيران في معارضة الولايات المتحدة والسياسات الغربية والدعوة المتبادلة لإنشاء الهياكل والطرق البديلة. في الواقع، مع عدد قليل من البدائل، فإن إيران قد اعتمدت إلى حد كبير على روسيا كمنفذ اقتصادي حيوي للتحايل على العقوبات الاقتصادية فضلا عن لعب دور المحاور الدبلوماسي نيابة عنها في المجتمع الدولي. دعمت روسيا قطاع الدفاع والمشروع النووي الإيراني. روسيا وإيران وسعتا أيضا تعاونهما في المجالات العسكرية والاستخباراتية في سوريا والعراق.
وعلى الرغم من القلق المشترك بين السعودية وروسيا على خلفية لظروف المحيطة الاتفاق النووي الإيراني، فإن خطورة التطورات في سوريا تفوق أي احتمال لعملية تحول إيجابي في العلاقات السعودية الروسية. درجة العداوة المتبادلة المشتركة بين المملكة العربية السعودية وروسيا فيما يتعلق بالصراع في سوريا ومجموعة من المسائل الأخرى ترجح أن أي علاقات بينهما سوف تكون عابرة.
المواجهة في سوريا
وتصاعدت وتيرة الصراع المشتعل في سوريا بسرعة إلى نقطة انطلاق لمجموعة من الصراعات بالوكالة لها تداعيات تتجاوز حدود بلاد الشام. وفي هذا الصدد، فإن المملكة العربية السعودية وروسيا من بين الأطراف الرئيسية للصراع. المملكة العربية السعودية هي واحدة من المصادر الرئيسية للدعم السياسي والعسكري والاقتصادي لعدد من فصائل المعارضة المسلحة، بما في ذلك مختلف التيارات الإسلامية المتطرفة، التي حملت السلاح ضد النظام البعثي.
المملكة العربية السعودية تنظر إلى الصراع في سوريا من خلال منظور الجغرافيا السياسية. نظرا لكون سوريا هي أحد الحلفاء الأهم لطهران، فقد قدمت الانتفاضة في سوريا فرصة لتقويض نفوذ طهران في الخليج والشرق الأوسط. انضم إلى السعودية كل من تركيا وقطر وأعضاء آخرين من دول مجلس التعاون الخليجي والأردن. وعلى الرغم من المملكة العربية السعودية والرعاة الآخرين للمعارضة أعلنوا الحرب ضد «الدولة الإسلامية» رسميا، فإن دعمهم يصل بسهولة إلى أيدي المتشددين الإسلاميين المهيمنين على فصائل التمرد.
روسيا، من جانبها، تواصل تزويد النظام البعثي بخط حيوي هام من الدعم الدبلوماسي والعسكري، والاقتصادي. التدخل العسكري الأخير هو تأكيد من موسكو على أهمية مصالحها في سوريا. التنسيق العملياتي بين روسيا وإيران في سوريا والمسارح الأخرى يمثل أحد الأوجه بالغة الأهمية للمشاركة الروسية في سوريا.
في كثير من النواحي، فإن العوامل التي ساعدت في تشكيل النهج الروسي تجاه سوريا هي من مخلفات تأثير الحرب الباردة. تمتع الاتحاد السوفيتي وسوريا بعلاقات صداقة امتدت آثارها إلى المجالات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، والمجالات الاجتماعية. الاشتراكية العلمانية التي يمثلها حزب البعث تحمل قدر كبير من القواسم المشتركة مع الاشتراكية على النمط السوفيتي. في حين أن روسيا قد أبدت عدة مقترحات مرنة تجاه بقاء «الأسد»، فإن هذه المقترحات جميعا تبدو ملتزمة تجاه بقاء النظام البعثي بشكل أو بآخر، وهو احتمال يجعل من المرجح استمرار «الأسد» نفسه في سدة الحكم في المدى المنظور. هذا الواقع لا يترك مجالا للتوفيق مع الأهداف السعودية. على الجبهة الدبلوماسية، حاولت روسيا أن تتغلب على جهود المملكة العربية السعودية وغيرها من معارضي النظام البعثي من خلال تقديم المبادرات الدبلوماسية الخاصة بها.
لقد قيل الكثير حول التواجد العسكري الروسي في سوريا. حافظت روسيا على قاعدة بحرية متواضعة في مرفأ طرطوس بعد نهاية الخرب الباردة. في منطقة تهيمن عليها الولايات المتحدة، فإن حليفا كالنظام السوري يبدو حاسما. يتجذر دعم روسيا للأسد بشكل خاص وللنظام البعثي بشكل أوسع في المخاوف العميقة حول المنافسة مع الولايات المتحدة.
من وجهة نظر روسيا، فإن التوسيع التدريجي لتواجد حلف شمال الأطلسي في المجال السابق لنفوذها في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق يمثل إهانة لسيادة روسيا وتهديدا وجوديا لها. لذلك يجب النظر إلى تدخل روسيا في سوريا وفق منظور جيوسياسي أوسع والذي يعكس محاولة روسيا لإعادة تأكيد وضعها كقوة عالمية. التيار الإسلامي المتطرف البارز في التمرد الروسي يضم أعدادا كبيرة من المواطنين الروس ومواطني الاتحاد السوفيتي الأسبق، وهو عامل آخر للقلق. سجل المملكة العربية السعودية في تشجيع انتشار السلفية «المتشددة» بما في ذلك بين المسلمين الروس وغيرهم في الاتحاد السوفيتي السابق، لا تزال نقطة خلاف في العلاقات السعودية الروسية. يستمر الدور المحوري الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في دعم نضال المجاهدين ضد الاتحاد السوفيتي بعد أن غزا أفغانستان في صبغ التطورات الروسية تجاه المملكة. ونتيجة لذلك، فإن روسيا ترى أن أي سقوط محتمل للنظام البعثي قد يكون بمثابة نقطة انطلاق للتمرد في القوقاز وآسيا الوسطى.
إجراءات تركيا في سوريا أيضا قد أثارت ذعرا في روسيا. على الرغم من اشتراكهما في علاقات اقتصادية وثيقة تتمحور حول الطاقة والقطاعات الرئيسية الأخرى، حيث إن تركيا هي أكبر مستهلك للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا. روسيا تخشى أن زوال النظام البعثي من شأنه أن يشجع على صعود نفوذ تركيا في المجال التقليدي للنفوذ الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى السوفيتية السابقة، وخصوصا بين الأعراق التركية والسكان المسلمين. كثير من سكان المنطقة هم من أصحاب العرق التركي، ويحملون الروابط العرقية واللغوية والدينية، والثقافية مع تركيا. النصر الذي حققه حزب العدالة والتنمية في تركيا مؤخرا من المرجح أن يشجع تركيا على المضي قدما في عملياتها في سوريا. في هذا السياق، فإن التقارب المتزايد للمصالح بين المملكة العربية السعودية وتركيا حول سوريا يثير مجموعة أخرى من أجراس الإنذار في موسكو. لقد وضعت المملكة العربية السعودية وتركيا خلافاتهما القائمة منذ فترة طويلة جانبا من أجل تنسيق أوثق لدعم الأجنحة السياسية والمسلحة للمعارضة السورية.
استجابة انتقامية
وقد بدأت المملكة العربية السعودية سياسة انتقامية ضد روسيا .المملكة، إلى جانب الداعمين الآخرين للمعارضة المسلحة قد أدانوا بشدة قرار موسكو بشن ضربات جوية في سوريا. وعلى الرغم من كونه ليس معبرا عن السياسة الرسمية، فقد دعا أكثر من 50 من رجال الدين السعوديين العرب والمسلمين لحمل السلاح ضد روسيا وكذلك إيران وغيرهما من أنصار النظام البعثي، ومن المرجح أن يتردد صدى مثل هذه الدعوة على نطاق واسع على نسبة كبيرة من الشعب السعودي الذي ينظر إلى الصراع من منظور طائفي. بيان الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الذي وصف تصرفات روسيا في سوريا بأنها «حرب مقدسة» من شأنه أيضا أن يزيد التوترات بين السعودية وروسيا.
وقد ذكرت تقارير أن المملكة العربية السعودية قد زادت أيضا من دعمها المادي للمعارضة المسلحة، وتحديدا في شكل تسهيل نقل صواريخ تاو المضادة للدبابات أمريكية الصنع لمختلف الفصائل المسلحة. من الناحية العملية، فإن إدخال أنظمة تاو يساعد بشكل رئيسي في مواجهة منصات الدروع الثقيلة الروسية وأي أسلحة مشابهة قد تقدمها روسيا مستقبلا للنظام البعثي. كما يورد أن المملكة العربية السعودية قد قامت بتدبير العديد من الهجمات التي تستهدف المصالح الروسية في سوريا، بما في ذلك العمليات التي أطلقها نشطاء مرتبطين بجيش الفتح وجيش الإسلام.
تستفيد الرياض من نفوذها الاقتصادي لمواجهة الكريملين في سوريا. هناك تكهنات بأن المملكة العربية السعودية عازمة على إبقاء أسعار النفط منخفضة عن طريق زيادة إنتاجها الكلي من أجل تقويض روسيا التي تعتمد بشكل كبير على النفط وغيره من الإيرادات المتولدة من الطاقة. من أجل تطبيق ذلك، تحاول المملكة العربية السعودية كسب المزيد من النفوذ في الأسواق الحيوية مثل أوروبا وآسيا على حساب المنافسين مثل روسيا. وقد لجأت السعودية إلى تدابير مماثلة خلال الحرب الباردة لتقويض الاتحاد السوفيتي.