ديفيد شينكر- معهد واشنطن-
في وقت سابق من هذا الأسبوع، أعلنت المملكة العربية السعودية، أنها ستسحب ودائعها من "مصرف لبنان المركزي". ويأتي هذا الإعلان بعد سلسلة من الخطوات السعودية التي اتخذت ضد لبنان مؤخراً، ومن ضمنها تحذير رسمي لمواطنيها من السفر إلى تلك البلاد وإلغاء منحة بقيمة ثلاثة مليارات دولار إلى "الجيش اللبناني" وأخرى بقيمة مليار دولار إلى "قوى الأمن الداخلي". وقد اتُخذت هذه الإجراءات على ما يبدو على خلفية امتناع لبنان عن التصويت في الشهر الماضي على قرار في جامعة الدول العربية حظي بشبه إجماع عربي يُدين إيران لعدم منعها اقتحام السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد في 3 كانون الثاني/يناير الماضي. وقد امتنع وزير الخارجية اللبناني من "التيار الوطني الحر" جبران باسيل عن التصويت لصالح القرار، حيث يشكل حزبه أحد الشركاء المتحالفين مع «حزب الله» - الميليشيا الشيعية التي تدعمها إيران.
وتزامنت الخطوات السعودية أيضاً مع إصدار القانون الأمريكي الجديد "حظر التمويل الدولي عن «حزب الله» لعام 2015"، والذي يتخوف كثيرون في لبنان من أن يؤدي إلى زعزعة قطاع الخدمات المالية القوي في بلادهم. وتهدد هذه الإجراءات الأمريكية والسعودية مجتمعةً، بشن عاصفة شديدة يُحتمل أن تهزّ أسس الاقتصادي اللبناني الهش أساساً.
ولا يبدو أن سحب الودائع السعودية من "مصرف لبنان المركزي" مؤثر جداً في حد ذاته - فالودائع الخليجية هناك تبلغ أقل من مليار دولار، أو ما يعادل 2 في المائة تقريباً من الاحتياطيات الأجنبية في بيروت. غير أن تحذير السعوديين من السفر إلى لبنان سيحمل تبعات حقيقية، خصوصاً أن الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة سارت على خطى السعودية ونصحت مواطنيها بعدم السفر إلى لبنان. ويساهم قطاع السياحة بحوالى 7.5 في المائة من "إجمالي الناتج المحلي" اللبناني، وبلغت عائداته 3.5 مليار دولار في عام 2014. لكن هذا القطاع تضرر بشدة في السنوات الأخيرة بسبب الحرب المجاورة وقدوم حوالي 1.8 مليون لاجئ سوري إلى لبنان، حيث تراجعت الإيرادات بنسبة 10 في المائة في عام 2015 مقارنة بعام 2012. ومع ذلك، بقي لبنان الوجهة الأساسية للسياح الخليجيين في المنطقة - وقد أفاد هذا الواقع قطاع السياحة كثيراً في لبنان إلى أن صدرت تحذيرات السفر هذا الأسبوع.
أما فيما يتعلق بإلغاء التمويل السعودي بقيمة 4 مليارات دولار لشراء أنظمة عسكرية فرنسية، فهذه الخطوة رمزية للغاية ولكنها لن تحمل على الأرجح تأثيرات واسعة من الناحية العملية. فالجيش اللبناني عاجز عن صيانة الأنظمة التي في حوزته حالياً (على سبيل المثال، أقل من ثلث مروحيات الـ "يو إتش-1 إركويس" والـ "أس إيه 330 بوما" الـ 30 التي يملكها "الجيش اللبناني" صالح للطيران)، لذا فمن غير الواضح كيف سيتمكن الجيش من تحمل كلفة استخدام أو صيانة مروحيات الـ"يوروكوبتر كوغار" الجديدة الفرنسية الصنع البالغة قيمتها 23 مليون دولار التي كان من المقرر شراؤها. كذلك، ليس من الواضح أن "الجيش اللبناني" كان بحاجة حقاً إلى الأسلحة الأخرى الملغاة، مثل أنظمة الدفاع الجوي وثلاثة زوارق عسكرية للدوريات و24 مدفع "قيصر" ذاتي الحركة عيار 155 ملم [فرنسي الصنع]. وفي الواقع، دارت الكثير من التساؤلات وشبهات الفساد حول الصفقة إلى درجة أن بعض السياسيين اللبنانيين رحبوا سراً بإلغائها واعتبروها نعمة للجيش اللبناني.
ولعل العامل الأهم في المسألة كلها هو الأثر الكبير المحتمل الذي قد تسببه إعادة التموضع الخليجية على الوضع الاقتصادي في لبنان بشكل عام. فحتى قبل حدوث هذه التطورات، فإن الاستثمار في لبنان - الذي يبلغ دينه العام 69 مليار دولار، أو 132 في المائة من "إجمالي الناتج المحلي"، ناهيك عن التوترات الطائفية الشديدة وأحداث العنف المتكررة وسجل البلاد في الحرب الأهلية وحدودها المشتركة مع سوريا - كان يتطلب رهاناً كبيراً. والانسحاب السعودي من لبنان يزيد الأوضاع سوءاً، فالسياحة وقطاع العقارات والبناء أعمدة أساسية في الاقتصاد اللبناني، وسيلحق سحب رؤوس الأموال من دول الخليج ضرراً كبيراً بهذه القطاعات، كما من المحتمل أن يسبب مخاوف لدى مستثمرين محتملين آخرين، مما سيضعف القطاع المالي النشط في لبنان.
وفي الأسابيع الأخيرة، أغلق السعوديون فروع "البنك الأهلي" السعودي في بيروت، ولم يتبقَ سوى عدد قليل من فروع "البنك الوطني الكويتي" التي مازالت مفتوحة هناك. ولا شك أن مصارف أخرى ينتابها القلق من القيود المضنية التي يفرضها القانون الأمريكي الجديد، وقد يدفعها ذلك إلى إغلاق فروعها في لبنان أيضاً. فضلاً عن ذلك، انتشرت إشاعات عن بيع مواطنين خليجيين أثرياء لعقاراتهم الصيفية الفخمة في حمانا وبرمانا وجونية. ويترقب الكثير من اللبنانيين الآن الضربة الجديدة - أي ترحيل السعودية وغيرها من دول الخليج لمئات الآلاف من العمال اللبنانيين المغتربين لديها. ويساهم هؤلاء العمال بخمسة مليارات دولار من الإيرادات التي تصل لبنان، أو ما يعادل 70 في المائة من التحويلات المالية إلى لبنان وحوالى 11 في المائة من "إجمالي الناتج المحلي" للبلاد.
وقد يؤدي التحول في الموقف السعودي إلى تبعات سياسية كبيرة أيضاً. فعلى مدى عقود، كانت السعودية طرفاً مهماً في السياسية اللبنانية، وذلك أساساً كثقل موازن لإيران و «حزب الله». وعلى الرغم من أنها قد خفضت دعمها لحلفائها المحليين السنّة في السنوات الأخيرة، لا سيما رئيس الحكومة السابق سعد الحريري المنتمي إلى ما يُسمى بـ "تحالف 14 آذار"، ما زالت السعودية تقيم علاقات ممتازة على ما يبدو مع سياسيين آخرين، وبشكل خاص مع حليف الحريري المسيحي ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع.
ومن السابق لأوانه الحكم على تداعيات هذه الإجراءات الاقتصادية والسياسية: فهل هي إنذار سعودي للبنان لكي يتخذ حذره بصورة أكثر في علاقته مع كل من طهران والرياض، أم هي المرحلة الأولى من إعادة تموضع خليجي كامل بعيداً عن المشروع اللبناني؟ إن المسار الحالي يظهر أن السعودية تتجه نحو تخفيض دورها في لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يترك البلاد تحت رحمة إيران و «حزب الله» أكثر من أي وقت مضى.