د. عبدالله خليفة الشايجي- الاتحاد الاماراتية-
احتفلت دولة الكويت في نهاية الأسبوع الماضي بمرور الذكرى الخامسة والخمسين على استقلالها الناجز، وكذلك ذكرى التحرير من الاحتلال العراقي الغاشم، الذي غير الكثير من الثوابت والمعطيات على المستويين الخليجي والعربي، وشكل نقطة فارقة بعودة الولايات المتحدة بقوة للمنطقة بعدما فشل مبدأ الرئيس كارتر وبعده نيكسون في الحفاظ على أمن الخليج عبر الالتزامات الأمنية واستراتيجية العمودين التوأم.
وفي كل ذكرى غزو واحتلال أتذكر انقشاع تلك الفترة الحالكة بمزيج من الفرح والارتياح والغصة أيضاً بأن من احتلنا جار عربي- مسلم، يُفترض أن يكون شقيقاًً. وعندما احتل صدام حسين دولة الكويت وسط دهشة وصدمة النظام الأمني العربي المترهل لم ينجح العرب في صد وردع أو إقناع صدام بعدم احتلال الكويت ومحاولة شطبها وتحويلها إلى المحافظة 19 في العراق، أو في إقناعه بالانسحاب سلماً أو حرباً! ما شل النظام العربي. واضطرت الكويت بعد انقسام العرب في قمة القاهرة لطلب الدعم الدولي، وشاركت قوات 33 دولة خليجية وعربية وأجنبية بقيادة الولايات المتحدة وتحت راية الأمم المتحدة في تحرير الكويت من براثن المحتل العراقي وإعادة الشرعية.
وقد وقع احتلال الكويت في النزع الأخير للحرب الباردة على المستوى الدولي، حيث كان الاتحاد السوفييتي يمر بمرحلة الانحسار والتآكل التي سبقت السقوط والتفكك بعد الاحتلال بعام ونصف. واليوم تغير المشهد الإقليمي والدولي معاً وبشكل غير مسبوق. وكذلك تغيرت أشكال وأنواع التهديد الذي يمثله العراق الجديد عما كان عليه الوضع قبل ربع قرن. وبقيت ملفات لم تحسم كالتعويضات والأسرى. ولم تُبنَ الثقة وبقيت أشباح الماضي حاضرة بقوة كعائق أمام علاقة متكاملة. واليوم يبدو ظاهر العلاقة بين البلدين تعاوناً وقبولاً منذ إعادة العلاقات بينهما في أغسطس 2004، إلا أنه سلام بارد وعودة فاترة للعلاقات. وباطن العلاقات هواجس ومخاوف، بسبب عراق غارق في الصراعات والحروب والفساد ومظاهر الدولة الفاشلة ونظام تتحكم فيه إيران وتحتل «داعش» ثلث أراضيه وتقصفه 65 دولة ويواجه شبح التقسيم والتفتيت.
وعلى رغم موافقة الكويت على تأجيل الدفعة الأخيرة من التعويضات المستحقة على العراق والمقدرة بـ4,6 مليار دولار، بسبب الأزمة المالية الناجمة عن تراجع أسعار النفط، ورغم زيارة سمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد إلى بغداد في مارس 2012 للمشاركة في القمة العربية الثالثة والعشرين، وزيارات رسمية لمسؤولي البلدين ولوفود شعبية وأكاديمية وإعلامية ودينية للنجف وكربلاء، إلا أن العلاقة لم تتقدم كثيراً.
والتغييرات التي يشهدها النظام الإقليمي اليوم لافتة، لأنها غيّرت تضاريس المنطقة استراتيجياً بطريقة لا تزال تتفاعل. كما اختلفت نوعية التهديدات التي يمثلها العراق وتغيرت من تهديد متماثلSymmetrical إلى تهديد غير متماثل Asymmetrical يتمثل في هيمنة إيران، ودوران العراق كلياً في فلكها، استراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً! وهناك خطر تقسيم وتشظي العراق وقيام دولة فاشلة، أو مفككة قابلة للعطب وتصدير الفوضى والطائفية والتخندق المذهبي. وهناك أيضاً سيطرة «داعش» على حوالي ربع العراق واحتلال الموصل وأجزاء من الأنبار.
كما يتأثر العراق أيضاً بالمتغيرات وتبدل التحالفات وسيطرة وتحكم طهران فيه، ودخوله في المحور الإيراني الذي يضم، كما تفاخر إيران، أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. وتحول أيضاً إلى غرفة عمليات محور روسيا -إيران -العراق -سوريا. ولذلك لا يمكن الحديث اليوم عن العلاقات ومستقبلها وتحدياتها وهواجسها دون أخذ هذه المعطيات والمتغيرات بعين الاعتبار.
ويشهد العراق مخاض حروب أهلية وحروب بالوكالة بين مكوناته التي باتت تعيش في بلد مقسم بشكل عملي وواقعي وإنْ كان ذلك بشكل غير رسمي. فالأكراد باتوا قاب قوسين أو أدنى من الانفصال، ويتمنى عليهم رئيس الوزراء حيدر العبادي البقاء في عراق مقسم! ومديرو الاستخبارات الغربية يتحدثون عن العراق الذي نعرفه بصيغة الماضي! وتنظيم «داعش» يحتل ثلث البلاد. ومليشيات «الحشد الشعبي» تدفع البلاد إلى حرب أهلية ومذهبية بطائفيتهم ووحشيتهم التي لا تقل عن وحشية «داعش» ضد المكون السني. والدستور العراقي يشجع على التقسيم مع احتمال ضم المحافظات الجنوبية والوسطى الشيعية التسع لتتشكل دولة شيعية على الحدود الكويتية- السعودية. وهناك المخاوف من غرق العراق في التفتيت والتقسيم ووضعية الدولة المفككة والهشة حسب أدبيات العلاقات الدولية. والتي تشكل خطراً ليس فقط على نفسها ولكن على محيطها، مع احتمال تصدير الفوضى وعدم الاستقرار والعنف والإرهاب.
ولهذا كله، بتنا اليوم نتحدث ليس عن عراق واحد بل عن أكثر من عراق. وليس عن تهديد واحد كما كان يمثله صدام حسين من غزو واحتلال وابتزاز ومغامرات، بل عن مخاوف حقيقية من عراق غارق في صراعات ويواجه التقسيم والحروب الأهلية وهيمنة إيران وتهديد «داعش» ومليشيات «الحشد الشعبي» وتدخل 65 دولة في الحرب على «داعش»، هذا زيادة على خلاف مع تركيا وفتور مع السعودية -التي أعادت سفيرها وافتتحت قنصلية عامة في أربيل. وبسبب تعدد وتنوع مصادر التهديد فنحن محقون في الكويت إذا عشنا على هواجس الماضي ومخاطر المستقبل من عراق لن يعود كما كان عليه قبل ربع قرن!